فى قصيدة «العرب اللاجئون» للشاعر العراقى الكبير عبدالوهاب البياتى يقول: باعوا صلاح الدين, باعوا درعه وحصانه , باعوا قبور اللاجئين ... من يشترى ؟ - الله يرحمكم ويرحم أجمعين آباءكم , يا محسنون – اللاجئ العربى والإنسان والحرف المبين برغيف خبز إن أعراقى تجف وتضحكون السندباد أنا كنوزى فى قلوب صغاركم السندباد بزى شحاذ حزين اللاجئ العربى شحاذ على أبوابكم عار طعين النمل يأكل لحمه , وطيور جارحة السنين من يشترى ؟ يا محسنون ! لم يكن البياتى مجرد شاعر يكتب عذب الكلمات يدغدغ مشاعر دراويشه ومريديه؛ لم يبع كلماته لدى السلاطين مقابل دراهم تنثر فوق أشلاء الوطن.. ولكنه محارب بسيف الكلمات, شريد فى أوطانه مطارد داخل جسده .. كلماته تقطر دما .. ولم لا ؟ ! وقد كتبها بمداد الدم .. عاش و رحل وما زال جرح وطنه ينزف , حتى بعد رحيله فى الثالث من أغسطس عام 1999 بدمشق , حيث دفن عند سفح جبل قاسيون المطل على دمشق بعد أن طاف به المشيعون فى الساحة المشرفة على مقام الشاعر الصوفى محيى الدين بن عربى بحى الصالحية حسب وصيته بأن يدفن بالقرب منه . نعم رحل بجسده لكن كلماته مازالت محفورة فى جبين الوطن , مات ومازالت أزمات الوطن تتكالب عليه. ويقول البياتى: مولاى ! أمثالى من البسطاء لايتمردون لأنهم لا يعلمون بأن أمثالى لهم حق الحياة وحق تقرير المصير وأن فى أطراف كوكبنا الحزين تسيل أنهار الدماء من أجل إنسان الغد الآتى السعيد من أجلنا , مولاى, أنهار الدماء تسيل من أطراف كوكبنا الحزين حياته وقد ولد الشاعر عبدالوهاب البياتى فى التاسع عشر من ديسمبر 1926 بالقرب من مسجد الشيخ عبدالقادر الجيلانى ببغداد. ودرس اللغة العربية وآدابها بدءاً من عام 1944 وحصل على الليسانس من كلية دار المعلمين عام 1950 نفس العام الذى صدر فيه ديوانه الأول «ملائكة وشياطين». و عمل البياتى مدرسا حتى 1953 ثم عمل بالصحافة لمدة عام بمجلة الثقافة الجديدة التى أوصدت وفصل من وظيفته واعتقل لمواقفه الوطنية بسبب انضمام العراق لحلف بغداد , وبعد الإفراج عنه ترك بلاده إلى دمشق ثم بيروت ثم القاهرة, وفى تلك الفترة أصدر ديوانه الثانى « أباريق مهشمة» 1955 . وفى القاهرة عمل صحفيا بجريدة الجمهورية 1956. وصدر ديوانه الثالث «المجد للأطفال والزيتون» . وبعد ثورة 14 يوليو 1958 عاد لوطنه العراق لفترة قصيرة ثم عين ملحقا ثقافيا لبلاده فى العاصمة موسكو لكنه ترك العمل ليعمل أستاذا بجامعة العلوم السوفيتية ثم باحثا علميا بمعهد شعوب آسيا وزار خلالها معظم أقطار أوربا الشرقية والغربية ومكث بالإتحاد السوفييتى من عام 1959 – 1964. وصدرت له أثناء تلك الفترة عدة دواوين: عشرون قصيدة من برلين- كلمات لا تموت – والنار والكلمات. وأسقطت عنه الجنسية العراقية عام 1963 وفى هذا العام ظهرت له مسرحية شعرية بثلاثة فصول عنوانها « محاكمة فى نيسابور « . ثم عاد لقلب الوطن العربى مصر ليظل بها من عام 64 حتى عام 1970 . وأثناء إقامته الثانية بمصر صدرت له خمسة دواوين: الذى يأتى ولا يأتى – الموت فى الحياة – عيون الكلاب الميتة – بكائية إلى شمس حزيران – والكتابة على الطين. ثم سافر إلى أسبانيا من عام 70 حتى 1980 ومكث بها وعمل بالمركز الثقافى العراقى بمدريد وترجمت دواوينه للغة الإسبانية حتى أصبح هناك كما لو كان شاعرا أسبانيا . وصدرت له فى السبعينات عدة أعمال شعرية منها: قصائد حب على بوابات العالم السبع- سيرة ذاتية لسارق النار - كتاب البحر- وقمر شيراز. وبعد ذلك ظل البياتنى يتنقل من بلد إلى بلد, مرورا بالقاهرة والرباط وعمّان والكثير من الأقطار العربية, حتى استقر به المقام فى دمشق ليدفن بها . وهكذا قضى حياته رحالة لا ندرى هل أنهكته المنافى أم صقلته, وهو يرى وطنه العريى يتمزق أشلاء كما تمزقت الأندلس من قبل . فلسفته وأسلوبه والبياتى يرى أن الحياة منفى , والموت هو العودة من المنفى. وهو يقدم رؤى جديدة لمفاهيم الحرية والموت والغربة والانتماء: ويبغض الفن الذى لايصدر من تجربة عنيفة وعميقة, الفن الذى تسيطر عليه الألفاظ , أو بمعنى آخر تسيطر عليه القيم الشكلية والزخرفية دون الولوج إلى عمق التجربة الفنية, سواء كان هذا الفن شعرا أو موسيقى أو رسما أو حتى تمثالا منحوتا من صخر . فهو يقول: أنا أكره أن يستغرق اللفظ زمانى ولسانى, فقلمى ليس سيفا خشبيا . . فهو يرى أن أى فن تسيطر عليه الألفاظ أو الشكليات التى تشبه السيف الخشبى هو فن رديء خال من أى حياة ولا يكتب له الخلود , وهو ينكره ويرفضه بل ويهجوه ويهرب منه. لذا فهو لايكف عن الترحال بحثا عن تجربة حارة صادقة تلهمه وتبعده عن كل ماهو شكلى ولفظى . فهو لايحب الفن الزائف الذى يقدم أغراضا غير إنسانية , ويقدم قيما فاسدة لا تعطي للوجدان الإنسانى شيئا جميلا يُحفر فى الذاكرة ولا يمحوه النسيان . والبياتى رائد من رواد الشعر الحديث , وموسيقية شعره فى تدفقه ومرونته شيء فريد ورائع فى الشعر العربى. وهو فى قصيدته « سفر الفقر والثورة « يدور حول مشكلتين متداخلتين هى قضية الكفاح الثورى ثم مشكلة العذاب والفقر والنفى وهى نتائج ترتبت على القضية الأولى . وهو كشاعر يقدس الكلمة ويرى أنها سلاحه للثورة على السلطان. ولا يرى الوصول إلى السلطة هدفا فى ذاته كما يقول فى قصيدة « إلى الاتحاد الاشتراكى العربى « : قصائدى كانت سلاح الفقراء كانت البشارة وكانت العبارة أجنحتى.. بها أطير وبها أخترق الحصار فى سنوات النار واسلوب البياتى يمتاز بالتعبير باللمسات السريعة الدالة, التى لاتبنى صورة كلية , ولكن توحى بها مجرد إيحاء , وهو يستخدم هذه الطريقة ولكن داخل إطار الصورة الكلية التى يفرضها منهجه فى التعبير, من خلال شخصيات تاريخية مثل قصيدة «عذاب الحلاج» و«محنة أبى العلاء المعرى», أو من خلال رمز كلى , فيجمع بين فضائل الطريقتين . كما أن اسلوبه يجمع بين الغنائية العذبة والتدفق العفوى وبين الإلتزام بمضمون سياسى. وهذا يدل دلالة قاطعة على أن الالتزام مادام ينبع من وجدان الشاعر ولم يفرض عليه من الخارج , لا يتعارض بحال من الأحوال مع الجودة الفنية أو الغنائية أو العذوبة , كما نجد فى قصيدة «سفر الفقر والثورة «: فنجدها مقاطع غنائية عذبة شاكية , فيها ألم الغربة والحنين إلى الوطن , وفيها الثورة على الزمن الذى يرنع فيه الفساد, وفيها الشكوى من الفقر الذى يجسده الشاعر تجسيدا موحيا رائعا . والبياتى نجد فى شعره وأسماء دواوينه أنه يجمع بين الثنائية التى تطل عنده بمفهوم أكثر ثورية وأكثر تجاوزا لصراعى الظلام والنور و إنقسام اسم الديوان إلى الضدين أو ما يوحى بالتضاد - مثل «ملائكة و شياطين» عام 1950 و«أباريق مهشمة» 1954 و «عيون الكلاب الميتة» 1968 و«النار والكلمات» و«سفر الفقر والثورة» و«الذى يأتى ولا يأتى» و «الموت فى الحياة» و«الكتابة على الطين». فهو منذ ديوانه الأول «ملائكة و شياطين» لا يخلو شعره من الانطلاق والتوهج عبر رواسب تلك الثنائية الانقسامية لعلاقة التضاد والالتقاء الجلية بين النور والظلام بين الانتصار والإنكسار, فللنور والتنوير الإيجابى فى مقابل السلب و الهزيمة والظلم والإظلام . ونجد فى ثنايا تيار شعره المتدفق ورصد مفرداته اللغوية النمطية استخدامه لكلمات النور – النار – اللهب – الشهب – الشعاع – الوهج – اللظى – الحريق – الجمر – الموقد – البرق.....وغيرها من المفردات التى تعكس موقفه الثورى. وهذه الدلالات تجيء هنا فى مواجهة الضد: من إظلام و انطفاء وتهشم . البياتى و أدونيس وللبياتى موقف نقدى من الشاعر الكبير أدونيس (على أحمد سعيد). يقول البياتى: أنا أختلف عن أدونيس. فقصائده عبارة عن مكعبات هندسية وكلمات قد تظهر فيها أسماء اعلام, أما أنا فقصائدى هى تجربة وجودية ومعاناة حقيقية, حيث أستخدم الشكل كجزء منها ولا أستخدمه كوعاء للتعبير عنها . فقد كتبت قصيدة «عذاب الحلاج» و«قراءة فى كتاب الطواسين للحلاج» وقد ذكر النقاد أنها تدل على معاناة لنفس تجربة الحلاج وعلى استيعاب لتراث الحلاج الشعرى والفنى. ولدى أدونيس أيضا قصيدة عن الحلاج, ومكونة من عشرين كلمة , وهى عبارة عن مكعبات صوتية وكلمات لا تقول شيئا عن الحلاج على الإطلاق , فهل يمكن أن نقول إن قصيدة أدونيس هذه عن الحلاج ؟! أنا أعتقد أن العنوان فقط يشير إلى ذلك. لكننا لو حذفنا العنوان لما بقى من الحلاج شيء. أما أنا فأستخدم القناع أو الرمز لأملأ الوجود الغائب, أعنى الإنسان, لذا فأنا أؤكد على الموقف الإنسانى وعلى التجربة الإنسانية بالذات, و أحاول قدر الإمكان أن أطوع كل أدواتى الفنية لكى تسعف هذه التجربة وتعبر عنها. الدكتور زكى نجيب محمود قال البياتى شاعر الالتزام والاغتراب, والشعر فى قلمه سلاح نواجه به قوى الشر والدمار وكل ماهو ضد الحياة . البياتى و مكاوى وعبدالوهاب البياتى كان مولعا بأوطانه؛ تسكن فؤاده ويهيم بها وكان له بكل مدينة أصدقاء و أحباب. حتى أنه استحضر فى أحد آخر دواوينه « نصوصا شرقية « روح الموسيقار سيد مكاوى. وفى ذلك يقول: كان مكاوى صديقى منذ الخمسينيات. كنا نسهر معا أنا وهو وصلاح جاهين .. فجأة وجدت مكاوى يطل علىّ فى القصيدة .. لا أدرى كيف ؟ كان قد اختفى فى نفسى وكلما إشتقت إليه كنت اعود إلى رباعياته مع جاهين . تقول القصيدة: كنت ألعب النرد مع سيد مكاوى سيد مكاوى توقف عن اللعب قال : إننا مقبلون على كارثة , بينما كانت رايات الأمل تغطى سماوات العالم.
من أشعاره قمري الحزين قمري الحزينْ البحر مات وغيّبت أمواجُهُ السوداء قلعَ السندبادْ ولم يعد أبناؤه يتصايحون مع النوارس والصدى المبحوح عاد والأفق كَفَّنَهُ الرمادْ فَلِمَنْ تغنّي الساحراتْ ؟ والعشب فوق جبينه يطفو وتطفو دنيوات كانت لنا فيها ، إذا غنى المغنّي ، ذكريات غرقت جزيرتنا وما عاد الغناء إلا بكاءْ والقُبَّرَاتْ طارت ، فيا قمري الحزين الكنز في المجرى دفين في آخر البستان ، تحت شجيرة الليمون ، خبأهُ هناك السندبادْ لكنه خاوٍ ، وها أنَّ الرماد والثلجَ والظلمات والأوراق تطمره وتطمر بالضباب الكائنات أكذا نموت بهذه الأرض الخراب ؟ ويجفّ قنديلُ الطفولةِ في التراب ؟ أهكذا شمس النهار تخبو وليس بموقد الفقراءِ نارْ ؟ -2- مُدنٌ بلا فجرٍ تنامْ ناديتُ باسمكَ في شوارعِها ، فجاوبني الظلام وسألتُ عنكَ الريحَ وهي تَئِنّ في قلبِ السكون ورأيتُ وجهَكَ في المرايا والعيون وفي زجاجِ نوافذِ الفجرِ البعيدْ وفي بطاقاتِ البريدْ مُدُنٌ بلا فجرٍ يُغطّيها الجليد هجرتْ كنائسَهَا عصافيرُ الربيعْ فَلِمَنْ تُغَنِّي ؟ والمقاهي أوصدتْ أبوابَهَا وَلِمَنْ تُصَلِّي ؟ أيها القلبُ الصَّدِيع والليلُ ماتْ والمركبات عادتْ بلا خيلٍ يُغَطِّيهَا الصَّقِيع وسائقوها ميتون أهكذا تمضي السنون ؟ ونحنُ مِنْ مَنْفَى إلى مَنْفَى ومن بابٍ لبابْ نَذْوِي كَمَا تَذْوِي الزَّنَابِقُ في التُّرَابْ فُقَرَاء ، يا قَمَرِي ، نَمُوت وقطارُنا أبداً يَفُوت