فى أول أغسطس سنة 1964 نشرت مجلة «الكاتب» المصرية، ذات التوجه الطليعى، مجموعة من القصائد للشاعر العراقى عبد الوهاب البياتى، وكان البياتى يقيم فى القاهرة لفترات طويلة منذ الخمسينيات، ونشر بعض دواوينه فى القاهرة، وقدم لها كتّاب ونقاد مصريون، وفى مقدمة هذه القصائد، كتب الشاعر مقدمة قصيرة، وهى عبارة عن رسالة إلى الأستاذ أحمد عباس صالح، رئيس تحرير المجلة، جاء فيها: «أخى.. رسالتك إلىّ، حمَّلتنى مزيدا من الثقة والإصرار والإيمان بحتمية انتصار المثل الإنسانية فى ثقافتنا العربية، وفى الدور الطليعى العربى الكبير الذى تحمل أعباءه القاهرة، بجهود قادتها وكتابها ومفكريها وشعرائها، والنور كان دائما وأبدا يأتى من القاهرة -الوطن الروحى والفكرى- للثوار العرب الذين يضعون القيم والمثل الجديدة، ويسهمون فى بناء الحضارة الإنسانية..». ارتبطت مسيرة الشاعر العراقى، والمنفى أبدا، بمسيرة كثير من كتّاب وشعراء ومفكرين من اليسار العربى والعالمى، وحطّ رحاله فى مصر، حيث كانت تنشر أشعاره وترجماته فى بعض الصحف والمجلات المصرية، وقد نشرت له دور النشر التقدمية المصرية بعض دواوينه الأولى، تلك الدواوين التى أحدثت صدى نقديا عاليا، وبدأت شهرته تتسع وتنطلق من القاهرة. وأصدر الشاعر ديوان «المجد للأطفال والزيتون» عام 1956، هذا الديوان الذى حقق شهرة واسعة للشاعر فى مصر والعالم العربى، والعالم كله، وصدر الديوان عن دار «الفكر»، وصدّره بجملة «يا أطفال يافا الهائمين»، ورسم الغلاف ورسوم الديوان الفنان حسن فؤاد، وكتب مقدمته الشاعر والروائى والكاتب عبد الرحمن الشرقاوى، وجاء فى مقدمته: «عبد الوهاب البياتى هو أحد الذين شردهم نورى السعيد.. لقيته فى بيروت، إنسانا كبير القلب، تخفق كل نبضة منه بحب إنسان.. بحب الوطن.. بحب العرب.. هو دائما يذكر أماكن جميلة من أرض العراق.. أماكن لم يتح لنا أن نراها لسوء الحظ.. ويذكر وجوهًا لا يعرفها.. وجوهًا عراقية تتعذب فى كبرياء..». وتتصدر الديوان قصيدة، عنوانها: «أغنية من العراق.. إلى جمال عبد الناصر»، يقول فيها: (باسمك فى قريتنا النائية الخضراء فى العراق فى وطن المشانق السوداء والليل والسجون والموت والضياع سمعت أبناء أخى، باسمك يلهجون فدى لك العيون يا واهب الربيع للقفار ومنزل الأمطار فى قريتنا الخضراء..». ولا يخفى على القارئ، ذلك الأثر الواضح لتجربة رفيقه بدر شاكر السياب، وفى الديوان ذاته، يكتب قصيدة عنوانها «كلمات مجنحة.. إلى الكتاب المصريين»، يقول فى تفاصيلها: (يا ثورتنا المشتعلة يا قناديل حياة مقبلة يا شعارات رفاقى الظافرة لك قلب القاهرة لك -مذ أيقظه الحب- يغنى للملايين الحزينة وهى تصحو -بغتة- من نومها). ونشرت دار الديمقراطية التى كان يملكها الكاتب والمفكر محمد سيد أحمد، وذلك عام 1957، ديوان «أشعار فى المنفى»، وشارك فى رسوماته فنانون طليعيون كبار مثل بهجت عثمان وصمويل هنرى «آدم حنين»، وأحمد مرسى وآخرين، وكتب محرر الدار مقدمة، أشاد فيها بالبياتى، وسرد بعضا من مسيرته النضالية، كما تطرقت المقدمة إلى مكانته الرفيعة فى الشعر العربى الحديث، مع رفاقه بدر شاكر السياب ونازك الملائكة: «وما غابت عن عيونه الشاعرة أبدا شوارع بغداد، وعيون المناضلين فى العراق، وما غابت عن وجدان الشاعر أبدا، نبضة نضال فى شوارع عمان، وجبال الجزائر، وبيوت بورسعيد»، وفى قصيدته «بورسعيد» يقول: (على رخام الدهر، بورسعيد قصيدة مكتوبة بالدم والحديد قصيدة عصماء قصيدة حمراء تنزف من حروفها الدماء تهدر فى رويها المنتصر الجبار وأعين الصغار). ولأن اسم البياتى ارتبط بشعراء حركات التحرر فى العالم، وترجمت أشعاره إلى لغات كثيرة فى وقت مبكر من حياته، على اعتبار أنه شاعر مطرود من بلاده، لدرجة أن الشاعر التركى ناظم حكمت، كتب مقدمة ديوانه «القمر الأخضر» الذى ترجم إلى اللغة الروسية، وأشاد بتجربته إشادة لافتة إذا قال حكمت: «فى هذا الديوان يتحدث البياتى عن مشاعل الأمل، عن الربيع والأطفال والزنابق وعن بغداد، الوطن والحرية التى يسمع دويها، وعن كون الإنسان أخًا للإنسان». وفى غضون أعوام قليلة، حقق البياتى شهرة واسعة، وكتب عنه نقاد كبار، كما صدرت عنه كتب كاملة ورسائل أكاديمية فى جامعات العالم، وكان أشهر الكتب التى صدرت عنه كتاب «عبد الوهاب البياتى والشعر العراقى الحديث» للناقد الدكتور إحسان عباس عام 1955، وكتاب «عبد الوهاب رائد الشعر الحديث»، وشارك فيه الدكتور على الراعى، عبد الرحمن الشرقاوى، نهاد التكرلى، الدكتور على سعد، عبد الرحمن الخميسى، جيلى عبد الرحمن، صلاح جاهين، سعدى يوسف، أحمد عبد المعطى حجازى وغيرهم، وصدر هذا الكتاب عام 1958. ورغم أن هذه الكتابات أبلغت عن أهمية الشاعر ومكانته فى الشعر العربى والعالمى، فإن البعض كان متحفظًا أمام هذه الكتابات، مثل الناقد الدكتور عبد القادر القط، الذى كتب دراسة عن ديوانه «سفر الفقر والثورة»، وآثر أن يضع فى مقدمة دراسته هذا التحفظ، إذ قال: «لا أدعى أننى تتبعت كل ما كُتب عن البياتى من نقد وقارنته بشعر منذ 1957 حتى الآن، ولكن كتاب -عبد الوهاب البياتى رائد الشعر الحديث- الذى طبع فى دمشق سنة 1958، وضم مقالات لكتاب منهم المصرى والعراقى والسورى واللبنانى والسودانى، هذا الكتاب يكفى، بأصواته المتنافرة، ليعطينا فكرة عن التيه الذى وضع فيه الشاعر بين ألسنة كلها تثنى عليه، وإن كان كل منها يريد أن يفهمه حسب هواه، ولا شك أن الشاعر الشاب قد طرب لهذا الاهتمام وهذا الثناء الذى أوشك أن يكون إجماعا». ورغم هذا الإجماع الذى أشار إليه القط، فإن تجربة البياتى صادفت قراءات موضوعية كثيرة، قالت ما له وما عليه، لتضعه فى المكان الصحيح بين شعراء الريادة الشعرية فى العصر الحديث.