هناك خريطتان من المعارف والعلوم لابد للمؤسسة الدينية بأزهرها وأوقافها وإفتائها من القيام بهما على الوجه الأكمل، وبمقدار انتباه المؤسسة لتضاريس هاتين الخريطتين، والتأنق فى القيام بخدمتهما، يكون نجاح المؤسسة. الخريطة المعرفية الأولى هى منظومة من العلوم التى يتم تدريسها لصناعة العقل العلمى الذى يتخرج منها وينهض بمهامه التى يترقبها منه المجتمع، وعلى ضوئها تتحدد مقررات الدراسة، فى المعاهد والكليات الأزهرية. والخريطة المعرفية الثانية هى خريطة البحوث والمسائل التى ينتظر المجتمع من المؤسسة الدينية فيها رأيا واضحا، ورؤية معرفية متقنة ومنطقية، تزيل الشكوك والأوهام والتناقضات، وتملأ الصدور ارتياحا، وتملأ العقول استنارة. أما الخريطة المعرفية الأولى فهى أساس الإتقان والجودة فى عملية التعليم والتدريب، وأما الخريطة المعرفية الثانية فهى المنطلق والأساس فى جودة الأداء الناجح. والخريطة المعرفية الأولى تشتمل على اثنى عشر علما، كانت هى الأساس فى منح شهادة العالمية من الأزهر، وظلت كذلك إلى سنة 1931م، وكانت تلك العلوم تتضافر وتتشابك فى صناعة العقل الأزهرى النجيب، المتضلع من علوم الشريعة، البصير بتضاريس الدين فى عقائده وأحكامه وأخلاقه ومقاصده وآدابه ومنهجية تفكيره وكيفية صناعته للحضارة، والقادر على معرفة توجه الشرع وتوجيهه ومنطقه وما يقول به فى مختلف المسائل والأطروحات، ومن بعد سنة 1931م تفككت هذه الخريطة المعرفية وتوزعت على الكليات الشرعية المختلفة، مع محاولة لتغطية هذا التفكيك لم تنجح فى تلافى آثاره السلبية على المدى البعيد، بل لم تظهر تلك الآثار السلبية إلا بعد سنوات، فى الستينات فصاعدا، والتكوين الكامل للعقل العلمى الأزهرى من خلال العلوم الاثنى عشر هو الذى يجعله قادرا على النهوض بمهامه المجتمعية، من تثبيت منطق الإيمان واليقين عن علم ومعرفة ونقاش علمى جاد ومقنع، والحفاظ على منظومة القيم والأخلاق من التحلل والانهيار، والخريطة المعرفية الثانية قائمة على شدة وعى المؤسسة بما يطرأ فى المجتمع ويستحدث فيه من الأفكار والأطروحات والأزمات والنوازل، على المستوى الفلسفى والإعلامى والمجتمعي، مع وجود رؤية واضحة لما يعالج تلك الأمور بحكمة، مما يفرز تلقائيا خريطة الخطب والدروس والمواعظ والفتاوي، التى يكون مردودها على المجتمع حصول مزيد من الأمان والثقة، وانطفاء الأزمات، ومن هنا يأتى رصد قضايا العصر من حولنا، والتى على رأسها: أولا: رصد القواسم المشتركة بين تيارات التطرف على مستوى العالم والملاحقة لها بالتفنيد والإفحام، وثانيا رصد مقولات الإلحاد وفلاسفته والدعاة إليه، على تباين الخلفيات المعرفية التى ينطلقون منها للتنظير للإلحاد، سواء من وجهتهم فى شرح بعض بحوث الفيزياء الكونية، أو التاريخ الطبيعى، أو فلسفة الوعى والذكاء، وثالثا: رصد التحول فى الفكر الشيعى مثلا، والانتباه للفارق بين مرحلة الشيعة الفقهية أو العلمية التى ظلت تتعايش مع أهل السنة على مدى ألف سنة دون تناحر، وهى التى أنشأ معها الأزهر دار التقريب بين المذاهب فى الأربعينات إلى الستينات، ثم التحول الطارىء بوجود الشيعة كتوجه سياسى يتبنى عددا من الرؤى التى تسبب الاحتقان والصدام، ورابعا منظومة أعمدة الشخصية المصرية وكيفية تحديثها وترميمها واستدامتها حتى لا تتفكك شخصية الإنسان المصرى. والبناء والرصف الدقيق والمتأنى لهاتين الخريطتين هو أساس تشغيل المعاهد والكليات الأزهرية، لتدريس الخريطة الأولى وصناعة العقول، وأساس تشغيل المساجد على امتداد الجمهورية بل والعالم كله لتصحيح الفهم، ومحاربة كل فكرة منحرفة تطل فى الأفق، وأساس تشغيل دار الإفتاء لإدراك مشكلات المجتمع وأسئلته، مع الإتقان فى نحت الأجوبة المستخرجة من الشرع الشريف بما يحقق مقاصده فى كل زمن بحسب ظروفه وأحواله وطبيعة أموره. فإذا تفككت الخريطة الأولى ولم تعد هى الميثاق المعتمد لصناعة العقل، فإن المؤسسة تتحول إلى تخريج عقول مشوهة، غير مؤهلة، وإذا تفككت الخريطة الثانية فإن المؤسسة فى الأوقاف والإفتاء تتحول إلى حالة من العبثية، وذلك ينتج حالة من الضبابية والتخبط والحيرة، وعدم وجود عمل مؤسسى يشع بالنور والعلم والحكمة والوضوح، ويبعث بالحكمة والراحة إلى قلوب أبناء مصر. (وللحديث بقية). لمزيد من مقالات د.أسامة السيد الأزهرى