لا يشعر الإنسان بالسعادة أو تغتنى حياته بامتلاك الحقائق والأشياء، بل من سعيه للوصول إليها، والجهد الذى يبذله على طريق بلوغها، فالملكات الإنسانية لا تنمو بالوصول إلى كنه الأشياء، بل بالبحث عن ذلك الكنه، والاجتهاد فى مقاربته رويدا رويدا، أما الشعور بامتلاكه فيميل بالإنسان إلى الركود والتكاسل وربما الغطرسة والغرور، وجميعها صفات تحمل بعضا من معانى الموت. وربما يفسر لنا ذلك لماذا يكون الإيمان المكتسب أكثر أثرا فى النفس من الإيمان الموروث، فما نبذل الجهد وصولا إليه يدخل فى صميم إنسانيتنا، يملأ أرواحنا، ويشغل تلك المساحة الفاصلة بيننا والكون الممتد حولنا. إنه مثل الثروة التى اكتسبها رجل عصامي، تعب فى تكوينها ووهب حياته لصونها، لأنه يدرك قدرها، ويعلم كيف كانت حاله قبلها، وكيف صارت بعدها، ولماذا هى نعمة كبرى تستحق الاجتهاد فى تنميتها. أما ذلك الايمان الذى نأخذه عن آبائنا، مثلما أخذه أباؤنا عن أجدادنا، فالأغلب أن يكون خاملا، لا يثير فى النفس ألقا، ولا يضيف إليها شيئا أصيلا، بل مجرد معطى يشبه عقارات وأراضى وأموالا، لا يشعر وارثوها بقيمتها فى حياتهم لأنهم اعتادوا عليها، ولم يروا أنفسهم أبدا دونها، بل الأغلب أنهم سوف يسعون إلى تبديدها بالإنفاق السفيه لها، أو العجز عن بذل الجهد المطلوب لرعايتها، فليس بمكنتهم أبدا احترامها اللهم إلا بعد فقدها. وربما لذلك يقول جوتولد ليسنج، المفكر الألمانى الشاهق، صاحب الكتاب الأثير «تربية الجنس البشرى».. لو أن الله وضع الحقائق كلها فى يميني، ووضع شوقى المستمر إليها فى يساري، لسارعت إلى اختيار ما فى يساري، ولو أخطأت السعي، قائلا له: رحماك يا الله، فإن الحق الخالص لك أنت وحدك!. فهل يمكن هنا فهم سلوك المصريين اليوم، المنفصل جوهريا عن كل الفضائل الأخلاقية للإسلام أو فهم سلوك المتطرفين والإرهابيين العدميين إلا بكونهم ورثة دين لم يعرفوه؟ وهل يفعلون شيئا سوى تبديد الإرث الحضارى العظيم لدينهم الذى صاغه مجاهدون حقيقيون نشروا رسالته فى كل أرجاء الكون، وعلماء ومفكرون كثيرون صاغوا معالم ثقافته فى عصر نهضته الأولى؟. وحتى فى الحب، لا يكون المرء، رجلا أو امرأة سعيدا إلا بشعور مكتسب، شعور ينبع من ذوق الشخص الخاص، ينمو رويدا ويكبر تدريجيا أمام ناظريه، يبذل الجهد فى تخليقه ورعايته، فإذا ما ضمن الشخص مشاعر المحبوب، واطمأن إلى ذلك بدأ الملل يتسرب إلى علاقة الحب، ليدفع بها إلى حيز العادى والمألوف، بعد أن خلت من مشاعر التوق الأولى والوجد الأول، حيث ارتعاشة الروح الهائمة وخفقان القلب المتوتر، بل وحتى من الألم الأول الشفيف جدا، والحزن الأول الحارق تماما، فالحب يمنح من ألم الفراق واللوعة والصد بقدر ما يمنح من فرحة اللقاء والهيام والإقدام. وعلى قدر ما نفرح بكل لفتة من محبوب يقدم علينا، فإننا نتألم بكل لفتة تشى بصدوده، وتكشف عن إهماله. وعندما تذبل أحاسيس الألم أو تتوارى إلى حد البلادة وعدم الاكتراث، تكون أحاسيس الفرح قد توارت هى الأخرى إلى مستوى العادى والمألوف، وهنا نكون بصدد ذبول الحب. ينطبق ذلك على شتى مجالات الحياة، ويفرض نفسه على كل البشر، فقد يبذل الإنسان جل وقته وأعظم جهده لبلوغ أحد أهدافه عزيزة المنال، متصورا أن لحظة البلوغ هى الخط الفاصل بين شقاء وفرح، بين ألم السعى وسعادة الوصول، فإذا ما بلغ الهدف اكتشف أن سعادته به منقوصة، وأن الشعور بالاكتمال غير قائم ولا شيء بعد ذلك سوى الضجر. وربما اكتشف أيضا أن سعادته التى تصورها أمامه، قابعة عند لحظة تحقيق الهدف، تقبع فى الحقيقة خلفه، عند تلك اللحظات التى بدا فيها الهدف واضحا، وأن الطريق إليه ممكن، ففى السعى تكمن السعادة، وفى أمل الوصول تتألق الروح أما الوصول نفسه فلا يعقبه إلا الخواء. وهنا يتعين على الإنسان تجديد أحلامه وأهدافه واستكمال مسيرة السير إليها حتى لا يتحول الخواء من لحظة عارضة إلى حالة دائمة، لعلها أكثر خطرا على الإنسان نفسه وعلى من حوله حتى من حالات الألم أو الفشل، لأن الشخص الخاوى لا يعترف أبدا بخوائه، بل يسقطه على الآخرين، ثم يشرع فى ممارسة إستبداده عليهم. فالعالم الخاوى الذى توقف عن طلب المعرفة سرعان ما يبدأ فى التسلط على الآخرين باسم الحقيقة، والمتدين الخاوى الذى توقف عن استبطان إيمانه سرعان ما يبدأ فى التسلط على الناس باسم الله تنطعا وتطرفا وربما عنفا وإرهابا. والمحب الخاوي، الذى توقف عن الشعور بالتوق والوجد، سرعان ما يبدأ فى التسلط على المحبوب، قهرا لإرادته، واستهلاكا لروحه باسم عاطفة لم تعد قائمة. المشكلة الكبرى هنا أن السعادة لا يمكن أن تسكن فى الرتابة، ولو كانت الرتابة هذه حالا يشبه الجنة، فالسعادة لا تكمن فى السكون، بل فى الحركة والتجاوز والفعل والتحقق، فإذا ما أعطى الإنسان عائد رحلته وكفاحه منذ البداية لم يفرح به، لأن سعادته آنذاك تصبح مفروضة عليه، وليست ثمرة لجهوده الخاصة. ومن ثم تكمن قيمة الحرية باعتبارها الوسيلة الأبدع لاكتساب سعادة يشعر المرء حقا بأنه أهل لها، ما دام قد اجتناها بسعيه المتواصل وجهوده المتوالية. ولهذا ترتبط جل الفلسفات بمفهوم الحرية، الذى به نكتسب إنسانيتنا، فذواتنا ليست معطى نهائيا لنا، بل قدرتنا على التحقق والترقي، عبر الحذف والإضافة والتعديل، وصولا إلى الأفضل. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم