«يبدو أن العالم يحيك مؤامرة هذه الأيام ضد الثقة.. فغالبا ما يعجز عن الوفاء غالبية الناس «فرادى وجماعات» والشركات والأحزاب والجيران» هكذا يلخص زيجمونت باومان عالم الاجتماع البولندى مأزق العلاقات الإنسانية سواء كانت شخصية أم جماعية فى مجتمعنا المعاصر. فى توطئة كتابه «الحب السائل.. عن هشاشة الروابط الإنسانية» والذى ترجمه حجاج أبوجبر وصدر مؤخرا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر يقول باومان: بطل هذا الكتاب رجل بلا صفات.. ليس له صفات خاصة محددة دائمة –موروثة كانت أم مكتسبة- بل عليه أن يشكل الصفة التى يرغبها بجهده ومهارته وفطنته.. إنه إنسان من أهل المجتمع الحديث السائل هو اليوم ومن يخلفونه بلا روابط قوية يستعصى قطعها بل عليهم أن يشكلوا بانفسهم ما يشاءون من روابط تمكنهم من التفاعل مع بقية العالم البشرى مستعينين بمهارتهم وبراعتهم».. ويمضى «الهشاشة المخيفة التى تعانيها الروابط الإنسانية والإحساس بعدم الأمان الذى تبثه تلك الهشاشة والرغبات المتصارعة التى يدفعها ذلك الإحساس إلى إحكام هذه الروابط مع ابقائها فضفاضة فى آن هو ما يحاول هذا الكتاب إبرازه ورصده واستيعابه بصب اهتمامه على المخاطر والمخاوف المرتبطة بالعيش المشترك والعيش المنفصل فى عالمنا الحديث السائل». الكتاب هو محاولة لرصد يأس وإحباط رجال ونساء المجتمع المعاصر خلال سعيهم لتكوين علاقات وروابط إنسانية..الكتاب ليس مقصورا فقط على «الحب الرومانتيكى» كما يوحى العنوان بل يناقش هشاشة وتفسخ مختلف الروابط الإنسانية كافة. وإذا كان جوهر العلاقات الإنسانية هو «الالتزام» فإن المؤلف منذ البداية يؤكد أن معضلة المجتمع السائل-العصرى- هى رفضه للالتزام..» إن وعود الالتزام لا معنى لها على المدى البعيد إنها مثل الاستثمارات تخضع لحسابات المكسب والخسارة.. فإذا اردت الارتباط فقف على مسافة وإذا اردت الاستمتاع بالحياة المشتركة فلا تقطع على نفسك عهدا ولا تطلبه بل اجعل الابواب جميعًا مفتوحة على الدوام».. ثم يحاول أن يكثف فكرته بمثال طريف يلخص طبيعة العلاقات الإنسانية فيوضح أنها مثل التزلج على الجليد السلامة تكمن فى السرعة لا فى التوقف وتعميق الروابط.. هذا هو قانون العلاقات فى عصرنا الراهن كما يرسمه عالم الاجتماع البولندى. من الحب إلى اللذة إذا كانت «الأسرة هى نواة المجتمع واللبنة الأولى فى بنائه» بحسب المقولة الذائعة فمن المنطقى أن يتحدث المؤلف فى الفصل الأول عن «الحب بين الجنسين» باعتباره العلاقة التى تسبق تكوين «اللبنة الأولى لبناء المجتمع». يبدأ باومان رحلته فى تحديد ماهية الحب منذ العصور القديمة وحتى عصرنا الحاضر بالحديث عن «الحب الرومانتيكى» فيرسم له لوحة أو صورة تجميعية وصفية يمكن تلخيصها فى النقاط التالية: يقوم الحب الرومانتيكى على مقولة:تعاهدنا على ألا يفرقنا إلا الموت الحب قبول المجازفات والمتاعب والمخاطر والارتماء فى أحضان المستقبل المخيف الغامض بحثا عن المجهول وحبا فى المجهول عند المحبوب. الحب انفتاح على القدر فى حالة يمتزج فيها الخوف بالفرح ليتحولا معا إلى خليط لا يسمح لمكوناته بالانفصال. الحب ليس لما هو جميل بل للإنجاب والولادة فيما هو جميل.. ليس اشتهاء ما هو كامل ومكتمل بل الرغبة الملحة فى التشارك فى إبداع الكمال والاكتمال دون علم بمآله مثل أى عملية إبداعية لا نعلمها إلا لحظة البداية. الحب مصارعة لإخفاء القلق وعدم الاستقرار لكن عند الوصول لمرحلة «ترويض مشاكسة المحبوب وإنهاء شغبه يذبل ويموت».. فالحب يحيا عند حافة الهزيمة ويموت لحظة الانتصار والتملك الحب هو التحدى والجذب والإغواء.. ووعود الحب عادة ما تكون أقل غموضا من عطاياه فى الحب تنغرس الذات رويدا رويدا فى العالم وتتمدد الذات المحبة عبر إهدائها نفسها للمحبوب ومن ثم فالحب هو التوق الى توفير الحماية والإطعام والإيواء وكذلك المداعبة والملاطفة والتدليل. الحب يعنى إن تكون فى خدمة الآخر وتحت طلبه ورهن اشارته...لكنك فى نفس الوقت تسعى لنزع الملكية والاستحواذ على المحبوب.. إنه السيادة عبر الاستسلام والتسلط.. لا حب بدون تسلط. إلا أن هذه الصورة ليست واقعية لأن هذا الحب يولد توأما مع الرغبة التى هى اشتهاء للاستهلاك والرغبة والالتهام والابتلاع والتدمير من أجل ترويض «المحبوب» والاستيلاء عليه وتملكه.. إن الرغبة تسير فى خط مضاد للحب.. فإذا كان الحب تحليقًا فى الفضاء فالرغبة هبوط إلى الواقع وبعبارة أخرى يقول باومان: الرغبة والحب لهما مقاصد متعارضة فالحب شبكة تنسج من أجل الأبدية وأما الرغبة فوسيلة للهروب من الأعباء الثقيلة التى يتطلبها نسج الشباك فالحب بطبيعته يسعى الى ادامة الرغبة وأما الرغبة بطبيعتها فتهرب من قيود الحب». استمر التداخل والتجاذب بين «الحب» و«الرغبة» منذ العصور القديمة حتى منتصف سبعينيات القرن الماضى عندما اطلت النزعة الاستهلاكية بوجهها الكئيب على عالمنا وتحولت «الرغبة» إلى «الرغبة المفرطة» عندما أصبح منطق الاستهلاك والمكسب والخسارة هو المهيمن والمسيطر وبحسب ما ينقله المؤلف عن أحد الخبراء العصريين أصبح الحب: استثمارًا مثل كل الاستثمارات, يستثمر المرء فيها الوقت والمال والجهد الذى كان من الممكن استثماره فى شىء آخر.. إن علاقات الحب استثمار لكن هل يخطر ببال المرء ان يحلف قسم الولاء للأسهم التى اشتراها لتوه من السمسار؟ أن يقسم بأن يظل مخلصا للأبد فى السراء والضراء وفى الشدة والرخاء ويتعهد «بألا يفترقوا حتى الموت؟ والا تطلع اعينهم الى مكان آخر يغوى بفرص أفضل؟».. وهكذا لا فرق بين الحب وشراء الأسهم فى البورصة فليس مهما ولا مطلوبا «الاخلاص» فى العلاقة بل المهم فى الأمرين هو حساب الربح والخسارة.. هذا هو الحب العصرى اختار باومان تعبير «اللذة» لوصف «الرغبة المفرطة» –ممارسة الجنس- التى حلت فى عصر الاستهلاك وجعلت العلاقات «اكثر صفاء» وبعبارة موجزة يشرح المؤلف «العلاقات الصافية» قائلا: إنها علاقة تشير إلى لقاء عابر لا يستهدف إلا اللذة والمتعة ..انها سعادة حالمة بلا روابط سعادة لا تخشى الآثار الجانبية وتتناسى تبعاتها سعادة تخاطب المستهلك قائلة: إن لم يحقق لك المنتج الرضى الكامل يمكنك رده واستعادة نقودك كاملة.. أنها اكمل تجسد للحرية من منظور الحكمة والممارسة السائدة للمجتمع الاستهلاكى». الأسرة والأطفال كيف أصبح شكل الأسرة بعد أن تحول الحب الى صفقة تجارية مثل شراء الاسهم فى البورصة أو شراء أى سلعة أخرى؟ تكوين الأسرة يعنى الالتزام والتقيد بقيود وروابط شاقة لا تناسب إنسان العصر الاستهلاكى ومن ثم أصبح: تكوين الأسرة أشبه بالقفز فى ظلمات بعضها فوق بعض فهذا القرار-أى تكوين اسرة- يعنى التخلى عن أو إرجاء متع استهلاكية أخرى جذابة لم يجربها المرء ولا يعلمها ولا يتصورها وهذه تضحية غالية تتعارض تماما مع عادات المستهلك العاقل وهى ليست التضحية الوحيدة». ثم يعود باومان ليذكرنا بالتناقض بين منطق «الزوجية» المبنى على منطق «السلع المعمرة» والمنطق الاستهلاكى القائم على: التخلص من البضائع بعد استخدامها أولا بأول لإفساح المجال لبضائع أخرى واستخدامها.. فلا مجال ولا امكانية للزواج القائم على الاستمرار فى عصر أصبح التغيير المستمر هو الأمر الحاكم. مإذا عن إنجاب الأطفال؟ إنجاب الأطفال أيضا يناقض المسار الاستهلاكى الذى يحكم حياتنا والقائم على حساب الربح والخسارة وسيعطل صعود الأب أو الأم فى مسارهما الوظيفى ومن ثم يصعب تحقيق الطموحات و الإنجازات المادية وبعبارة المؤلف: إنجاب الاطفال يعنى ضرورة كبح جماح الطموحات المهنية والتضحية بالحياة المهنية لان المشرفين على الأداء المهنى سيرتابون فى أى علامة تدل على الولاء المزدوج.. أن إنجاب الأطفال يعنى قبول الولاء المزدوج-الولاء للطفل والولاء للعمل- لأجل غير مسمى ومن ثم الدخول فى التزام لا نهاية له ولا رجعة فيه ولا امكانية لإلغائه أنه التزام يتعارض مع سياسة الحياة الحديثة السائلة». لكن كيف تم التغلب على مشكلة الأسرة؟ يجيب الكتاب: الزواج التقليدى القائم على عبارة «تعاهدنا على ألا يفرقنا إلا الموت» غلبه نموذج المعاشرة المؤقتة القائم على عبارة «فلنجرب ونرى ما سيحدث» والذى عرف باسم «الأزواج شبه المنفصلين» «ثوار العلاقات الزوجية» الذين فجروا فقاعة العلاقة الزوجية وتحللوا من قيودها فالوجود المشترك لهؤلاء الأزواج إنما هو وجود غير متفرغ فهم يبغضون الحياة فى بيت واحد ومسكن واحد محبذين مساكن مستقلة وحسابات مصرفية مستقلة ودوائر اصدقاء خاصة بكل منهم بحيث يتشاركون الزمان والمكان عندما يرقهم ذلك لا رغما عنهم». الموبايل ووسائل التواصل الاجتماعى يرى المؤلف أن التواصل عبر الموبايل ووسائل التواصل الاجتماعى هو الحالة النموذجية للعصر السائل الذى نعيشه فالعلاقة مؤقتة وليست مبنية على الالتزام والاستمرار وبنص المؤلف: الاتصالات ضحلة ومختصرة للغاية بحيث يستعصى تحويلها إلى روابط فهى اتصالات آنية تركز على موضوع الاتصال ولا تتطرق إلى موضوعات أخرى ولا تأخذ الشركاء بعيدا من الوقت والموضوع الذى تستغرقه كتابة الرسالة وقراءتها على العكس مما ترتكبه العلاقات الإنسانية المعروفة بنهمها وحماستها من اخطاء وخطايا». وعن مواقع التواصل الاجتماعى يقول: يبدو أن الانجاز الأكبر للقرب الافتراضى هو الفصل بين التواصل والعلاقة فعلى العكس من القرب المكانى التقليدى لا يتطلب القرب الافتراضى تأسيسا مسبقا للروابط ولا ينجم عنه بالضرورة تأسيس لها فالاتصال أقل كلفة من الارتباط لكنه أيضا اقل إنتاجا فيما يتعلق ببناء الروابط والحفاظ عليها.. القرب الافتراضى يخفف الضغط الذى يبذله القرب غير الافتراضى كما أنه يحدد النموذج الذى تتبعه أشكال القرب كافة فصار لزاما عليها أن تقيس مزاياها وعيوبها بمقاييس القرب الافتراضى». النقطة الجوهرية التى تجعل العلاقات الافتراضية مطابقة للعصر تماما هو سهولة الخروج منها بدون أعباء أو التزامات: تبدو العلاقات الافتراضية آنيقة ونظيفة ومألوفة وسهلة الاستخدام مقارنة بالعلاقات الواقعية الهامدة الثقيلة الخاملة المضطربة فيمكنك إنهاء التعارف عند الطلب إنهاء فوريا دون ضجيج ومن دون حساب للخسائر ومن دون شعور بندم ولا ألم هذه هى الميزة الأساسية للتعارف عن طريق الانترنت فتقليل المخاطر واجتناب غلق الأبواب أمام الخيارات الأخرى الممكنة هما ما بقى من الاختيار العقلانى فى عالم الفرص المائعة والقيم المتبدلة والقواعد المتقلبة أيما تقلب كما أن التعارف عن طريق الانترنت بعكس التفاوض المحرج للالتزامات المتبادلة يحقق تلك المعايير الجديدة للاختيار العقلانى على اكمل وجه «أو على وجه أقرب إلى الكمال». العلاقة الاجتماعية بين الأفراد والجماعات يرصد الكتاب تحول طبيعة العلاقة بين الأفراد والجماعات منذ القديم وحتى عصرنا الحاضر. كانت العلاقة بين الأفراد قديما قائمة على الثقة المتبادلة بين الأفراد ما لم يظهر ما يستوجب القلق والخوف من الآخر وفسر هذه الثقة بأنها امتداد للطبيعة الإنسانية الخيرة: من سمات الحياة البشرية أننا نلتقى بثقة طبيعية.. وبسبب ظروف معينة لا نثق أبدا بغريب حتى قبل ان نلقاه ولكن فى الظروف الطبيعية نقبل الغريب ولا نرتاب فيه إلا إذا كان لدينا سبب وجيه فلا نتهم أحدا أبدا بالكذب إلا بعدما نضبطه وهو يكذب». لكن مع عولمة العنف عبر وسائل الإعلام الحديثة أصبح الأصل فى العلاقة بين الأفراد والجماعات هو القهر والصراع والعنف أصبح المنطق الداروينى: البقاء للأقوى هو الحاكم واصبحت مقولة ديفيد هيوم: الإنسان ذئب لأخيه الإنسان هى دستور البشرية إننا نعيش فى عالم قاس يسكنه اناس لا تعرف قلوبهم شفقة ولا رحمة عالم أفراد تُركوا إلى حيلتهم ودهائهم حتى يخدعوا بعضهم بعضا ويقضون على بعضهم بعضا. وعليه فإن لقاء الغريب يتطلب احتراسا فى المقام الأول واحتراسا فى المقام الأول والاخير فالاجتماع البشرى والجهد المشترك والعمل الجماعى كلها امور لها معنى مادامت تساعد المرء على تحقيق مراده ولا يوجد سبب وجيه لاستمرارها إذا لم تجلب المنفعة اكثر أو لا تجلب إلا منفعة أقل مما يمكن أن يأتى به التنصل من الالتزامات والغاء التعهدات. الكرامة الإنسانية سيطرة المنطق الاستهلاكى القائم على المكسب والخسارة كان له تأثير سلبى على كرامة الإنسان فى المجتمع المعاصر فأصبحت قسوة الحرب تقاس بعدد الضحايا المفقودين والمصابين فى حين يؤكد المؤلف أن اهانة أو صرخة أو إصابة إنسان فضلا عن قتله لا تقدر برقم ولا تعلل بسبب فيقول: فى عالمنا الذى تستحوذ عليه الاحصاءات والمتوسطات والأغلبيات نميل إلى قياس درجة لا إنسانية الحرب بعدد الضحايا ونميل إلى قياس الشر والقسوة والعدوان وبشاعة الظلم بعدد ضحاياه ولكن فى عام 1944 فى وسط أبشع الحروب السفاكة للدماء قال لودفيدغ فيتغنشتاين: لا صرخة من العذاب أشد من صرخة إنسان واحد. ولا عذاب أشد مما يمكن أن يعانيه إنسان واحد. ولا معاناة الكوكب بأسره أشد من عذاب روح واحدة.. قد يتفق أغلبنا أن الألم والمعاناة المفتقرة الى المعنى والهدف لا يمكن قبولها ولا الدفاع عنها ولكن فئة قليلة منا على استعداد للاعتراف بأن تجويع إنسان واحد أو التسبب فى موته ليس ولا يمكن أن يكون ثمنا مناسبا مهما قيل أن السبب الذى سيدفع من أجله الثمن «ذو معنى وهدف» فلا امتهان الكرامة الإنسانية ولا انكارها يمكن أن يكون الثمن بل أن الحياة الكريمة والاحترام الواجب لإنسانية كل إنسان يشكلان معا قيمة عليا لا يمكن وزنها أو تعويضها بأى ثمن ولا قيمة أخرى ولكن القيم الأخرى كافة هى قيم بشرط أن تخدم الكرامة الإنسانية وتدافع عنها فكل الاشياء القيمة فى الحياة الإنسانية إنما هى عملات رمزية مختلفة عديدة لشراء القيمة الوحيدة التى تجعل الحياة جدية بالحياة ومن يسعى الى البقاء بقتل الإنسانية الكامنة فى أناس اخرين يبقى حيا بجسده بعدما ماتت إنسانيته». الكومباوند.. مدينة الأشباح زاوية طريفة تطرق إليها المؤلف وهى كيف أثر منطق هشاشة العلاقات وتفككها على تشكيل المدينة الحديثة وتحديدا كيف أصبح البناء العمرانى الحديث يساعد على تفكك العلاقة بين الأفراد والجماعات والابقاء عليها هشة ومفككة بل تولد رغبة عدائية وتحديدا الكومباوند يقول المؤلف: إن الابتكارات المعمارية/ العمرانية هى أشكال جديدة لما شهده عصر ما قبل الحداثة من خنادق مائية حول الحصون وأبراج الهجوم ومنافذ السهام والقذائف فى أسوار المدينة لكنها لا تدافع عن المدينة وجميع سكانها ضد العدو الخارجى بل شيدت لفصل سكان المدينة والدفاع عنهم ضد بعضهم بعضا بعدما صاروا الآن يتخاصمون.. إن هذه التطورات هى مظاهر تقنية عالية للهلع المرضى المنتشر من الاختلاط «فوبيا الاختلاط». وفى موضع آخر يقول: البيوت فى كثير من المناطق الحضرية حول العالم توجد لحماية سكانها لا لإدماج الناس فى مجتمعاتها...ففى حين يوسع سكان تلك المناطق الحضرية فضاءات الاتصال بينهم لتشمل الفضاء الدولى فإنهم غالبا وفى الوقت نفسه يبعدون بيوتهم عن الحياة العامة بفضل الأبنية التحتية الأمنية الذكية». هذه الصورة المرعبة دفعت المؤلف لأن يطلق عليها «مدن الأشباح» حيث تغيب الأحلام وتحل محلها الكوابيس ويغلب الخطر المحدق ومن ثم أصبحت المدينة الحديثة ساحة للمعارك والاقتتال: المدن المعاصرة هى ساحات المعركة التى تلتقى فيها القوى العولمية والمعانى والهويات الممعنة فى المحلية وتتصادم وتتصارع وتبحث عن تسوية مقبولة أو يمكن احتمالها. إنه نمط للتعايش المشترك يأمل فى سلام دائم ولكن القاعدة تثبت أنه مجرد هدنة واستراحة لإصلاح الدفاعات المحطمة وإعادة نشر الوحدات القتالية فالمواجهة هى التى تحدد حركة المدينة «الحديثة السائلة» وترشدها.