لا يضر العدالة أن يفلت منها عشرات المجرمين, ولكن يضرها أن تجرم بريئا واحدا .. تلك قاعدة راسخة في ساحات القضاء, فحتما سيفلت عشرات المجرمين, بثغرات قانونية, أو بحيل أهل القانون, أو بطمس المجرم لأدلة الادانة. هناك ألاعيب قانونية وحيل وثغرات قد تأتي بأحكام لا يرضي عنها الناس, هنا لابد من الاعتراض, ولكن بالطريقة التي أوجدها المشرع, لي ولك. وكما نعرف فالمعارضة والاستئناف والطعن درجات تقاض, اللجوء إليها يعتبر اعتراضا علي الحكم القضائي. وإذا كان يحق للقانونيين مناقشة الحكم والكشف عن عيوبه علانية في الصحف وعبر الفضائيات, فليس من حق أحد الطعن في ذمة القاضي الذي أصدر الحكم, أو التفتيش في ضميره.إذ انتهي عصر عدم التعليق القانوني علي الأحكام خصوصا أنه لا يوجد نص يمنع ذلك. لكن أيضا ينبغي أن تنتهي طريقة الاعتراض علي هيئة المحكمة أو التشكيك في قضاتها. علينا أن ندعم قيم العدل, ونرسخ لاحترام الأحكام حتي لو اعتقدنا أنها خاطئة حتي لا تسود الفوضي, ويعم التشكيك, وينتشر العنف. فقمة الظلم أن يتحول المتقاضون إلي قضاة, يحكمون بما يريدون, فالمتخاصمان حين يقفان أمام القاضي يرفع كل منهما لافتة تطالب بالعدل.. تتبدل اللافتات بعد صدور الحكم لترفع واحدة بعبارة يحيا العدل وتشهر الأخري بعبارة يسقط القاضي.. لا للظلم هنا نسأل كيف يحكم القاضي بما يرضي الخصمين ؟ وهل يستقيم العدل حين يذهب مواطن إلي المحكمة في يده ميزان العدل وفي اليد الأخري حبل مشنقة ؟ هذا مواطن حكم بنفسه, أو أراد أن يحكم القاضي بما يريد, كأن العدل فقط ما في يديه. نعرف أن القضاة يحكمون بالقانون, وبما لديهم من أدلة وبراهين, وربما يخطئون, لكن ليس من حق أحد أن يحكم نيابة عنهم. ف المحاكمات القضائية وحدها التي تضمن تحقيق العدل, والفصل القاطع بين القضاء والسلطة التنفيذية والتشريعية هو شرط الحرية كما قال مونتسكيو. كما أن الطغيان الحقيقي يبدأ عندما تنتهي سلطة القانون, أي عند انتهاك القانون كما قال جون لوك. ويضع الدكتور إمام عبدالله إمام احترام القانون شرطا أساسيا للوصول إلي دولة الديمقراطية. ويسأل فرانسو كيناي: ماذا تفعل لوكنت ملكا؟ لا أفعل شيئا ومن الذي سيحكم ؟ القوانين وإذا كنا نري عدل سيدنا عمر بن الخطاب نموذجا ونبراسا نهتدي به, فلا يعيب خليفة رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يخطئ في حكم ويصححه له الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي بامرأة زنت وأقرت, فأمر برجمها فقال الإمام علي رضي الله عنه: لعل بها عذرا ثم قال لها: ما حملك علي الزنا ؟ قالت: كان لي خليط وفي إبله ماء ولبن ولم يكن في إبلي ماء ولا لبن فظمئت فاستسقيته, فأبي أن يسقيني حتي أعطيه نفسي فأبيت عليه ثلاثا فلما ظمئت وظننت أن نفسي ستخرج أعطيته الذي أراد فسقاني. فقال علي: الله أكبر, فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم الطرق الحكمية لابن القيم الجوزية, هنا أصدر عمر الحكم وصححه علي, فهل في ذلك عيب؟ القاضي يحكم بعيدا عن تأثير الرأي العام, أو هكذا يجب أن يكون, لأنه يقدم حيثيات حكمه بعد إصدار الحكم, ومن حق أصحاب الحق أن يعترضوا علي الحكم. الاعتراض علي الحكم القضائي حق أصيل للمتضرر, لكن ينبغي أن يكون, بطريقة قانونية, أي باللجوء إلي الدرجات القضائية الأعلي.الحكم القضائي لن يرضي كل الناس, فمن المؤكد أن هناك طرفا متضررا يعتبر الحكم معيبا, وهناك طرف مستفيد يعتبر الحكم قمة النزاهة واستخداما صائبا للقانون وعودة الحق لأصحابه. نعلم أن القاضي بشر يصيب ويخطئ, ولا يصحح هذا الخطأ سوي قاض أعلي وليس أمامنا وسيلة أخري وإلا سيتحول الاعتراض إلي فوضي وبالتالي يحق لكل من صدر ضده حكم أن يتهم القاضي ويسبه ويتظاهر ويعتصم, وكل هذه طرق تقوض العدالة وتخيف القضاة, وتعطي انطباعا أننا لا نحترم الأحكام وتقودنا إلي دولة اللاقانون التي تكون فيها السيادة للأقوي سواء كان جماعة أو عائلة أو حزبا. ولا ننسي أن الله أحكم الحاكمين هو وحده من يحكم بالعدل المطلق الذي لا طعن عليه ولا استئناف أو تعقيب أليس الله بأحكم الحاكمين, فالعدل الكامل صفة الله وحده: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ولذلك تكررت الآيات التي تحض علي العدل: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوي واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر علي شيء وهو كل علي مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو علي صراط مستقيم وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما علي الأخري فقاتلوا التي تبغي حتي تفيء إلي أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ومن الغريب والمؤلم أن تتفشي ظاهرة التجرؤ غير المعتادة علي منصة العدالة, التي اهتزت في عيون الناس من كثرة ما تراه في ساحات المحاكم, وعلي صفحات الصحف, من افتراء مشهر, وكذب بين, يمارس ضد قضاة مصر بصفة عامة. فلا أحد من المدانين وتابعيهم من الأهل وهيئة الدفاع يرضيه حكم قاض, وهذه طبيعة بشرية, لكن القاضي الشريف لا يعمل عند أحد, ولا يهمه رأي خاص أو عام ولا ينحاز في أحكامه لحكومة أو أفراد, وإن فعل فيكفيه عذاب ضميره, إذ لا سلطان علي القاضي إلا ضميره. علينا أن نوقن أن القضاة ميزان الحياة, إذا اعتدلوا اعتدلت, وإذا مالوا مالت, وعلينا أن ندعم شرفاء هذه المهنة العظيمة.فالقضاء حصن البشر, خلفه يعيشون حياتهم مطمئنين وآمنين, لا ترهبهم سلطة ولا يخيفهم صاحب جاه,لأن ميزان العدل قائم بين المتخاصمين والمتنازعين, يقتص من الظالم والمستبد وينصف المظلوم.وإذا ما اهتز النظام القضائي, فإن المجتمع بكل طبقاته يهتز ويسقط أخلاقيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. وعلي هذا لا يمكن تصنيف القضاة بين مستقلين وموالين أو تابعين, فالتابع ليس قاضيا. ومن هنا ليس ثمة تلاق بين السياسة والقضاء, وإذا حدث وتعانقا, فالاثنان في ورطة, لأن السياسي ما إن يتقمص دور القاضي حتي يضيع دوره و يسقط في متاهة الشك, وحين يرتدي القاضي عباءة السياسي يفقد علي الفور حياده المطلق ويصبح محل شك, فالسياسة هي الانحياز والمراوغة, والقضاء هو الحياد والوضوح. ولا ينكر أحد أن القضاء في مصر بعافية وفي شدة, ولكن العلاج لا يأتي بذبح القضاة أو جلدهم, أو تكسير همتهم, وتدمير عزيمتهم, إنما يأتي بتقويم المعوج وإبعاد الضعيف علميا ومهنيا, ومعاقبة الفاسد, عن طريق قانون يرضاه القضاة والشعب.