لا أدرى لماذا لم يتم التطرق فى إفطار الأسرة المصرية إلى قضية الغش فى امتحانات الثانوية العامة، إذ أظن أن ثمة حاجة إلى كلمة رئاسية حول الأمر نظرا لأنه يمس أحد أعصاب عملية التنمية الشاملة التى نحرص عليها جميعا، وهى بناء الإنسان الشريف الواعى والمخلص لبلده، وهذه عملية تنشئة تتم بالدرجة الأولى فى مراحل التعليم المختلفة، ومهما وضعت المؤسسات من الخطط المتكاملة نظريا وبرامج التنفيذ المُعدة زمنيا على أرقى مستوى، سيظل وجود إنسان غشاش وعابث ويضرب بالقوانين عرض الحائط عقبة كؤودا سوف تطيح بكل الخطط والبرامج، وحينها ستبقى الأمور على حالها إن لم يكن أصحبت أكثر سوءا وتخلفا. الغش الذى حدث والتسريب الذى تواطأ عليه كثيرون من مستويات مختلفة بداية من بضعة معلمين باعوا ضمائرهم إلى الشيطان، وعمال طباعة لا يعرفون معنى الأمانة، ومراقبون تجاهلوا الموضوع فى العديد من اللجان، وأخرين يرون أنفسهم نشطاء سوء يطوعون تكنولوجيا الاتصالات من أجل نشر فسادهم، وطلاب مهملين وكُسالى ويريدون النجاح بأى ثمن وبأى طريقة، وأولياء أمور لديهم إمكانات مادية يشترون بها أجهزة اتصالات حديثة يصعب اكتشافها من أجل نجاح أبنائهم بالغش والتدليس، بل يتباهى البعض بنشر صور الأبناء وهم يغشون عبر أجهزة الهاتف المحمول فى اللجان، ومن وراء ذلك منظومة تعليم جامدة لم تتغير فى آلياتها وبرامجها لعقود طويلة تبدلت فيها مفاهيم العلم والتعليم والتربية والتنشئة من الجذور، ومع ذلك بقينا كما نحن دون أى خطوة للأمام، كل ذلك يجعلنا نعتقد أننا أمام أزمة مجتمع فقد رُشده، وأزمة ضمير والتزام لم يعودا موجوديْن عند نسبة كبيرة من المصريين. فبالله عليكم جميعا كيف نطلب من شبابنا أن يجتهد ويرتقى وأن يبتكر وأن يسعى وراء العلم والمعرفة، وهو يجد مثل هذه المنظومة المناهضة لأبسط قواعد المواطنة والمساواة فى الفرص. وكيف ندعوه إلى أن يثق فى المستقبل وأنه يحمل الخير له فى الوقت الذى يرى فيه زملاء له يغشون بكل ببساطة ويحصلون على درجات أعلى وتصبح فرصهم فى الالتحاق بما يسمى صكليات القمة أكبر من غيرهم الذين اعتمدوا على أنفسهم فقط واجتهدوا فى تحصيلهم العلمى ولكنهم حصلوا على درجات أقل، ثم كيف بالله نثق فى هذا الذى نال درجات أعلى بالغش والتدليس فى أن يصبح مسئولا نأتمنه فى موقع قيادى أو فى مؤسسة سيادية أو أمنية. لقد عكس الحوار الذى دار بين وزير التعليم وأعضاء لجنة التعليم بمجلس النواب، رغم حدة بعض التعليقات من أعضاء اللجنة لم تكن مبررة، غياب الفهم المجتمعى لقضية الغش، ورغم أن الوزير قدم عرضا للإجراءات التى قامت بها وزارته واتصالاته مع جهات ووزارات أخرى من أجل السيطرة على ظاهرة الغش الالكترونى، فإنه انتهى إلى القول إنه يستحيل تماما القضاء على هذه الظاهرة، فهى تتطور تقنيا، فى الوقت الذى لا يعرف فيه كثير من المعلمين والمراقبين طبيعة وشكل أجهزة الإرسال والاستقبال الحديثة التى يستخدمها بعض الطلاب الغشاشين. ومع عدم إنكار أن الجريمة بوجه عام تتطور بأسرع مما تتطور به وسائل محاربتها، وأن التطور فى تقنيات الاتصالات متسارع بدرجات مخيفة، وهناك من يستغله فى تعميق الجريمة الالكترونية، وأننا فى مصر نعانى تدنى المعرفة الكاملة بهذه التطورات فى حينها، مما يجعل المواجهة شبه محسومة لمصلحة المفسدين والغشاشين. ومع الاعتراف بأن تكلفة التشويش على لجان الامتحان فى طول البلاد وعرضها وهى 1581 لجنة ليست بمقدور الموازنة العامة للدولة، فهناك بعض إجراءات بسيطة يمكن أن تتخذها وزارة التعليم فورا وتُحد من هذه الظاهرة وصولا إلى تقنية تمنعها تماما فى الأعوام المقبلة، مثل المنع التام وتجريم دخول الطلاب بالهواتف المحمولة إلى لجان الامتحان، وتغليظ العقوبات لمن يحمل أى أجهزة إرسال واستقبال حديثة بمنعه تماما من دخول الثانوية العامة لمدة عشر سنوات وتغريم ولى أمره مبلغا كبيرا من المال يُدفع لصندوق تحسين الابنية التعليمية، أو يتم حبسه ما لا يقل عن خمس سنوات، وأن يتم معاقبة المراقبين الذين يسمحون بالغش أو بوجود هاتف محمول بالوقف عن العمل لمدة ستة اشهر وعدم الترقية لمدة خمس سنوات على الأقل. قد يرى البعض أن منهج تغليظ العقوبات غير مفيد، ولكنه فى هذه الحالة وكإجراء سريع هو عين الصواب، ومن الحكماء من قال من لم يرتدع بالحُسنى فلا مفر من العصا، وفى حالتنا هذه نحن بحاجة إلى عصا غليظة جدا. ثم أننى أرى أن مطلب وزير التعليم وقف الانترنت أو الفيس بوك فى اثناء إجراء الامتحانات هو مطلب عقلانى جدا، فكل ما يفيد المجتمع واستقراره هو مطلب دستورى بالدرجة الأولى، وليس كما قيل إنه مطلب غير دستورى، فالدساتير وضُعت لكى تحمى البلاد والعباد وتوفر لهم أسلوب حياة متماسكا يستند إلى قيم تتسم بالانضباط والرقى. ولذا فمهمة نواب الشعب أن يجتهدوا فى سن قانون يساعد وزارة التربية والتعليم والمجتمع بأسره على مواجهة هذه الظاهرة بكل أبعادها، وتتيح للوزارة بمشاركة وزارات أخرى اتخاذ الاجراءات الفنية التى تساعد على وقف التفكير فى الغش عبر الانترنت. إن أمن المجتمع هنا له الأولوية على هذه التفسيرات الشكلية كالقول بأن منع الانترنت فى أثناء الامتحانات والتى لا تزيد على أسبوعين وثلاث ساعات فى اليوم الواحد، هو عمل غير دستورى، فمثل هذا التفسير وبقراءته عكسيا يعنى أن الغش بالوسائل الإلكترونية يتمتع بالحصانة الدستورية، وتلك بدورها طامة كبرى. وخلاصة الأمر: بلادنا بحاجة إلى تفكير من نوع جديد خارج نطاق التفكير التقليدى الجامد الذى أوصلنا إلى هذا الحال. لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب