تستظل الإدارة الأمريكية بالديمقراطية وحقوق الإنسان لفرض هيمنتها عالميًا، وبالتوازي تمارس انتهاكات مضادة لما تستظل به، فتنزلق عنه، وتواري مواقفها منه انسياقًا وراء مساق هيمنتها، حتى تبدت الديمقراطية وحقوق الإنسان قناعًا تنكريًا، يخفي تنطعاتها فرضًا لهيمنتها. صحيح أن جناحي التعايش في ظل مبدأي العدل والحرية، هما الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ إذ ثنائية الديمقراطية وحقوق الإنسان تستند وتسعى إلى تحقيق المجتمع المتساوي في الوعي والمعرفة تحررًا من الاحتياج والقهر، إذ تعني مفهومًا وممارسة استهداف تجسيد حكم الشعب بالشعب وللشعب، ضمانًا للعدل والحرية للمواطنين، دون حق أقل أو منع لحق عن فئة أو فرد؛ تذرعًا بخصوصية ما، أو استجابة لأهواء التسلط والاستبداد، لكن الصحيح كذلك أن الإدارة الأمريكية تمارس الانتهاكات كافة ضد الديمقراطية وحقوق الإنسان داخل الولاياتالمتحدة أيضًا؛ تغيبًا للاستحقاقات المشروعة لمواطنيها، إذ تتعدد داخل الولاياتالمتحدة ممارسات الانتهاكات وتنوعها، ما بين انتهاكات العنف التعسفي لحقوق السلامة الشخصية للمواطنين، وخروقات لحرياتهم العامة، وحقوقهم السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية والسياسية بمدار غاص بالقهر، وتفاقم التمييز العنصري المتجدد بمنظور تهديده بمستقبل قاهر ومغلق، وتنامي معاناة النساء والأطفال، والجماعات الفقيرة والمهمشة لقصور الممكنات؛ وغيابها عن مستحقيها. إن حقائق المباينة التفصيلية لهذه الانتهاكات، تبوح بها مرجعيات لسجلات ووثائق ذات مصداقية، نستحضر منها بعض الحقائق: تم تسجيل وجود (46) مليون شخص في وضع الفقر، في حين يفتقر إلى الغذاء الكافي (48) مليون شخص، كما يوجد (560) ألف شخص بلا مأوى، ولا يزال (33) مليون شخص دون تأمين الرعاية الصحية، ويندرج (44) مليون عامل في القطاع الخاص لا يتمتعون بالحق في الحصول على إجازات مرضية مدفوعة الأجر، وهناك (17) مليون طفل دون أب وتحت خط الفقر. ألا تعري تلك الانتهاكات عجز الإدارة الأمريكية، عن مواجهة التزاماتها بواجباتها في حماية حقوق مواطنيها.إن ممارسات الواقع السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة، بتقويضها الإدراكات المؤكدة لفعالية الديمقراطية وتغييبها، تضع الوعي في مواجهة الاختلاف المطلق معها، فالديمقراطية تحقق رصيد فعاليتها بقدر تراكم مصداقية مطابقة ممارسات الواقع السياسي والاقتصادي لأهدافها، كما أن الفاصل الحدي بين الديمقراطية وغيرها من النظم، ليس في إجراء الانتخابات وتداول السلطة، وحرية التعبير والاجتماع، إذ قد تتبدى تلك الممارسات استثمارًا إغوائيًا لطمأنات خادعة، تخفي ازدواجية ملتبسة، بين ظاهر ديمقراطي ومضمون استغلالي معاكس، وذلك عندما تختطف الإرادة الشعبية فتفارق ممارسات منطلقاتها الديمقراطية، وتفقد استنفارها الدائم بوثوقية يقين يؤكد فعالية ارتباطها بحقوق المواطن العادي، بوصفه المرجعية المستقرة للديمقراطية؛ لذا ففي مواجهة تعاظم خطورة فقدان الديمقراطية لشرعيتها، بدأت اجتهادات علمية لاستنهاض التواصل مع صحيح مفهوم الديمقراطية، بالمقارنة مع ممارسات الواقع الاجتماعي والاقتصادي الأمريكي، تحديدًا لدوائر الانغلاق بينهما، وبحثًا عن صيغ اللقاء والافتراق، وذلك ما تجلى في الدراسة التي طرحتها جامعة " برينستون" 2014، وأعدها العالمان المتخصصان، " مارتن جيلنز" و "بينامين آي بيج"، إذ طرحا سؤالاً: من الذي يحكم حقًا؟ وإلى أي مدى يؤثر أغلب المواطنين العاديين في السياسة الأمريكية؟ كشفًا عن نوعية المستويات المباشرة، وغير المباشرة التي تتدخل لتوجيه استراتيجية سياسة الواقع الاقتصادي والاجتماعي الأمريكي، أجرت الدراسة تحليلاً لما يقرب من (1800) قرار سياسي على مدى (21) عامًا. وقد أجابت الدراسة الإحصائية عن سؤالها بأن الأغلبية في الولاياتالمتحدة لا تحكم؛ بل النخب الاقتصادية وجماعات المصالح الخاصة، التي لها التأثير الأكبر في تحديد صنع السياسات العامة الأمريكية، وأن تأثير المواطن الأمريكي العادي وأولوياته جد ضئيل وغير ملحوظ إحصائيًا، وقد تتحقق رغبات المواطن العادي فقط عندما تلتقي مع رغبات النخب، أو مجموعة مؤثرة منها، وإذا ما كان صحيحًا أن الانتخابات هي التعبير الأقوى عن الديمقراطية الأمريكية، فإن الصحيح أن النخب الغنية صاحبة النفوذ قد اخترقتها واستحوذت عليها، وأصبحت هي التي تحكم وتسود ساحة الفعل. شكل المال السياسي من تبرعات للأحزاب والمرشحين اختلافًا، فرض إحالته إلى محكمة العدل العليا، التي قضت برفع القيود الحكومية كافة على إنفاق الأفراد، والشركات الأمريكية والأجنبية والنقابات في تمويل الحملات الانتخابية جميعها، وألغت ما يخالف ذلك من قوانين، في حين أنه جرى استطلاع للرأي العام الأمريكي، عن إطلاق حرية التمويل دون سقف محدد، فجاءت نتيجة إحصاءات الاستطلاع برفض (80% ) من الأمريكيين لإطلاق حرية التمويل بلا سقف. وقد أوردت المحكمة رأيها " بأن إنفاق أموال ضخمة على الانتخابات، لا يؤدي إلى إمكانية ممارسة الشخص الذي ينفق هذه الأموال الضخمة ضغطًا على المسئولين، وأن اختصاص الحكومة يقتصر على منع ظهور الفساد". بعد قرار المحكمة ارتفعت تبرعات دعم المرشحين الجمهوريين، إلى مبلغ( 258) مليون دولار، بزيادة (16) ضعفًا عن انتخابات 2012، وتبرعت شركات "كوتش برازر" بمبلغ مليار دولار، لجماعات الضغط الكبرى لممارسة أعمالها خلال الحملات الانتخابية. ترى هل يجوز الاستهانة بتأثير التبرعات التي بلا سقف، عندما تغدو استفرادًا للمال كسلطة غواية لاستباحة المؤسسات الاستراتيجية للدولة، المنوط به صياغة قراراتها وسياساتها؟ وهل يجوز أن تصبح القولبة في الأحكام القضائية مطلقة في التعامل مع الأمور كافة دون مراعاة لخصوصيتها وشروط حمايتها؟ لقد سمحت القولبة للمال السياسي أن يعمل على المكشوف، فتفاقم خطره وأصبح طليقًا في ممارسة المناورة والهيمنة على الانتخابات، ولأن نصف الثروات الشخصية قد تمركزت في أيدي (3%) فقط من الأسر الأمريكية؛ لذا فإن قائمة المرشحين للرئاسة تضم ابنًا لحاكم ولاية، وابنًا لعضو الكونجرس، وزوجة رئيس أمريكي سابق، وأخًا لرئيس أمريكي، وولدًا لرئيس أمريكي، وحفيدًا لعضو مجلس الشيوخ. هل تلك هي الديمقراطية بقيمها وأسسها المركزية، أم ديمقراطية الأثرياء؟ أعلن الرئيس الأسبق "جيمي كارتر"، رأيه في قرارات المحكمة العليا بشأن تمويل الانتخابات "بأنها تخالف جوهر ما جعل أمريكا بلدًا عظيمًا في نظامها السياسي, وهي الآن تحكمها أقلية، وأصبحت الرشوة السياسية جوهر الحصول على الترشيحات، أو الانتخابات؛ وذلك ما يعد تخريبًا كاملاً لنظامنا السياسي"، كما صرح عضو الكونجرس الديمقراطي "جون دنغل": " بأن السماح للناس وجماعات المصالح المشتركة وغيرها، بإنفاق أموال غير محدودة مجهولة المصدر، قد مكن بعض الأفراد من تحديد مسار جميع الانتخابات، ومع الأسف نادرًا ما تكون أهداف هؤلاء الناس على اتفاق مع أهداف الجمهور العامة، ويبدو أن حكوماتنا قد وضعت للبيع إلى حد كبير". لقد استمرت التظاهرات ضد المال السياسي أمام مبنى الكونجرس ثمانية أيام، واعتقلت الشرطة (1200) شخص في 18 أبريل 2016. ولا تزال الإدارة الأمريكية تمارس تنطعاتها على العالم اتجارًا بالديمقراطية وحقوق الإنسان!! لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى