حين نتحدث عن تاريخ البشرية ونقسمه إلى عصور قديمة وحديثة، كيف نميز بين هذه العصور؟ هل نكتفى بالحدود الزمنية. فنقول إن العصور القديمة تنتهى فى القرن الخامس بعد الميلاد لتبدأ العصور الوسطى التى امتدت حوالى ألف عام لتبدأ بعدها العصور الحديثة؟ هل نكتفى بهذه الحدود؟ وهل يكون تاريخ البشر مجرد زمن يتتابع ويتراكم تراكما كميا لايتميز أوله عن آخره؟ أم أن هذا التراكم الكمى أحداث وتجارب وخبرات وتحولات ينتقل بها التاريخ من حال إلى حال ويصبح تراكمه الكمى تغيرا كيفيا نميز به بين عصر وعصر آخر، فللقديم ملامحه، وللوسيط ملامحه، وللحديث ملامحه؟ ولاشك أن لكل أمة تاريخيا قوميا يختلف قليلا أو كثيرا عن تاريخ غيرها، فالعصور القديمة فى مصر لها ملامحها التى تتميز بها عن العصور القديمة فى الهند أو فى اليونان، كما أن العصور الحديثة لها فى كل بلد وفى كل قارة بدايات مختلفة وملامح مختلفة، لكن هذا الاختلاف لاينفى وحدة التاريخ البشرى فى كل العصور. لأن شروط الحياة واحدة أو مشتركة. المطالب واحدة، والمخاوف واحدة، والبحث عن الرزق والأمن، والنضال فى سبيل الحرية والعدالة تؤدى كلها إلى تجارب وأوضاع متشابهة فى علاقة البشر بالطبيعة وبما وراء الطبيعة وبأنفسهم وبغيرهم، الانتقال من اقتصاد الكفاف إلى اقتصاد الوفرة، ومن مجتمع القبيلة والقرية إلى مجتمع المدنية والأمة، ومن الدولة الدينية إلى الدولة الوطنية، ومن حكم الأقلية إلى حكم الديمقراطية، أو بالعكس فى بعض الأحيان. فالتاريخ البشرى ليس دائما خطوات للأمام أو للأفضل، وإنما تتعرض المجتمعات الانسانية لكوارث طبيعية، وهزائم عسكرية، وحروب أهلية، وتخضع لنظم مستبدة تنال من طاقاتها المادية والمعنوية، وتؤدى بها إلى التخلف والعزلة والتراجع والانحطاط كما حدث لنا حين فقدنا حريتنا واستقلالنا فى العصور القديمة وخضعنا لحكم الغزاة الأجانب، وكما حدث للأوروبيين حين انهارت الامبراطورية الرومانية وخضعت أوروبا لأمراء الاقطاع ورجال الكنيسة الذين حكموا ألف عام كانت ظلاما فى ظلام لم يخرج منه الأوروبيون إلا حين اتصلوا بالثقافة العربية الاسلامية التى ازدهرت بضعة قرون ثم تهاوت تحت ضربات الحكام الطغاة والفقهاء المقلدين الذين حاربوا العقل، وأغلقوا باب الاجتهاد، وبهذا انتقلت الراية للأوروبيين الذين ساروا بها من عصر النهضة إلى العصور الحديثة التى تكاملت فيها حضارات البشر ووصلت إلى ما وصلت إليه فى المجتمعات المتقدمة التى انحازت للعقل، واكتشفت قوانين الطبيعة ووضعتها فى خدمة البشر، وحولت العلم النظرى إلى تطبيقات وتقنيات زودتنا بكل الآلات والأجهزة التى نستخدمها فى حياتنا العامة والخاصة، وفصلت الدين عن الدولة، وساوت بين المواطنين فلم تعد تميز بين طبقة وطبقة أو بين دين وآخر، وثارت على الطغاة، وآمنت بالديمقراطية وحقوق الانسان. وتلك هى المعايير التى نحتكم لها ونحن نجيب على السؤال الذى وجهه الرئيس السيسى للمثقفين الذين التقى بهم قبل أسبوعين. هل نحن فى عصر ازدهار؟ أم نحن فى عصر انحطاط؟ معيار النهضة هو الاحتكام للعقل، والايمان بحق الانسان فى الحرية وبقدرته على معرقة الحقيقة وبلوغ السعادة، إذا نظرنا إلى واقعنا الذى نعيشه فى ضوء هذا المعيار، كيف يكون جوابنا على سؤال السيد الرئيس؟ أما أنا فقد بدأت جوابى على السؤال الخطير بكلمة سريعة عن الثقافة المصرية قلت فيها إن الثقافة هى عمود وجودنا، فمصر لاتكون بغير الثقافة، ومصر تزدهر حين تزهر ثقافتها، وتعتل باعتلالها. ولكى تصح الثقافة المصرية وتزدهر يجب أن تكون حرة وأن يكون المثقف المصرى حرا مستقلا، وقبل أن تنشأ وزارة الثقافة كانت الثقافة المصرية مزدهرة. ولا أظن أنها ازدهرت أكثر بعد إنشاء الوزارة، أو حافظت على ما حققته من قبل. ثم دخلت فى الموضوع. قلت إن حملة بونابرت كانت حدا فاصلا بين عصرين: انحطاط طويل كأنه الموت فقدنا فيه كل شئ، ونهضة كأنها عودة الروح استعدنا فيها استقلالنا خطوة خطوة، وحملنا السلاح وطردنا الغزاة الأتراك من بلادنا وبعدهم المحتلين الانجليز، وبنينا دولة مدنية خطوة خطوة ونظاما دستوريا، واستعدنا وحدتنا الوطنية فأصبح الدين لله والوطن للجميع، وحاربنا تجارة الرقيق، وأبطلنا السخرة والكرباج، وحررنا المرأة من سجون الحريم، وأحيينا اللغة الفصحي، واجتهدنا فى الفكر الديني، وترجمنا من فلسفة التنوير، وأنشأنا الجامعة المصرية، وأعدنا الاعتبار للمنهج العلمى والتفكير العقلاني، وأضفنا للأدب العربى فنون المقالة والرواية والقصة والمسرح، ومصرنا فن السينما، وأحيانا فن النحت وفن التصوير، وأقبلنا على الحياة من جديد.لكن هذه النهضة الحقيقية توقفت بقيام نظام يوليو الذى صادر الحريات، وقضى على النخبة السياسية والفكرية، ودخل فى سلسلة من المغامرات والتمثيليات العسكرية انتهت بالهزيمة وتبديد الثروات القومية وإغراق البلاد فى الديون، وتراجع ثقافة النهضة وثقافة الديمقراطية والمواطنة لتروج فى المقابل ثقافة الظلام والنقل والشعوذة والطغيان والتمييز الطائفي، وتنتعش جماعات الاسلام السياسى وتتوالد وتتناسل وتتحول إلى عصابات إرهابية تعلن الحرب على الدولة والمجتمع وتفرض ارادتها وتتمكن فى النهاية من الوصول إلى السلطة. فإن كنا نجحنا فى إسقاط حكومتها فنحن لم ننجح حتى الآن فى الخروج من ثقافتها وهى ثقافة عصور الانحطاط التى سبقت نهضتنا الحديثة. كيف نخرج من هذه الثقافة ونعود للنهضة ونستأنفها من جديد حتى نكمل الشوط ونتخلص مما نحن فيه؟ ليس أمامنا إلا طريق واحد هو الذى أشار إليه السيد الرئيس وحثنا على السير فيه، لكن أحدا لم يستجب له حتى الآن إلا أفرادا ما إن بدأوا نشاطهم فى تعبيد هذا الطريق وإزالة ما يعترضنا فيه من عقبات حتى صودرت حرياتهم وألقى بهم فى السجون. أتحدث عن تجديد الخطاب الدينى أو بالأحرى تثويره. وتجديد الخطاب الدينى عمل لايمكن أن يتحقق كما رأينا فى ظل الظروف القاسية التى نمر بها ويستطيع فيها أى دعى متسكع أن يتهم أى مثقف جاد بازدراء الأديان فيجد من يصدقه وينيله مأربه ويصادر حرية من تسول له نفسه أن يفكر بحرية ويتصدى لتجديد الخطاب الديني. تجديد الخطاب الدينى لايتحقق إلا بشرط لاغنى عنه هو أن تكون الحريات الديمقراطية مضمونة، لأن الخطاب الذى نريد أن نجدده ليس خطابا أعزل وليس مجرد نصوص مطبوعة فى ورق، وإنما هو ثقافة سائدة مدججة بالسلاح يحرسها ملايين الأميين، فضلا عن مؤسسات وجماعات وأحزاب ودول تستخدم هذه الثقافة وتربط مصيرها بمصيرها، فلا أقل من أن يتسلح الذين يتصدون لتفنيد هذه الثقافة والخروج من ظلماتها بما يضمن لهم حريتهم ويمكنهم من إنتاج خطاب جديد يقنع الجمهور الواسع بصحته وجدواه. فى ختام كلمتى قلت للسيد الرئيس: لقد وعدتنا ياسيادة الرئيس فى لقاء سابق بأن تكون معنا فى الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الانسان. ونحن فى انتظار ما سوف تقوم به لنقول: انجز حر ما وعد! لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي