كانت المحاولة الفاشلة هذا الشهر لإقامة إمارة لداعش فى بن قردان جنوب شرقى تونس بالقرب من الحدود الليبية بمثابة تطبيق عملى لأفكار جاءت فى كتاب « إدارة التوحش «، من حيث اختيار موقع جغرافى يتبدى فيه ضعف سلطة الدولة ومؤسساتها وتخلخل الولاء للدولة الوطنية، ويمكن الاستثمار فى سخط سكانه على التهميش وغياب التنمية، وأيضا فى ثقافتهم المحافظة. وهو كتاب تنبه لأهميته وخطورته باحثون تونسيون فى ملف الإسلام السياسى والإرهاب خلال السنوات الأخيرة ونبهوا اليه . ويعزى فشل التطبيق فى بن قردان إلى عدة عوامل حاكمة ، فيما نجح ولو إلى حين فى مناطق أخرى بعالمنا العربى كالرقة بسوريا والموصل بالعراق .فقد انكسر رهان الدواعش على بيئة حاضنة لأن أهالى بن قردان أنفسهم أعلوا الانتماء للوطن على معاناتهم ومظلمتهم التاريخية . و أثبتوا أن الثقافة المحافظة لاتعنى بالضرورة القبول بالتطرف والعنف . وهكذا تحول الموقف على الأرض من الرهان على بيئة حاضنة لداعش إلى ترسخ بيئة حاضنة وداعمة لملاحقة قوات الجيش والشرطة للدواعش وإلحاق هزيمة لها أهميتها الاستراتيجية فى الحرب على الإرهاب بالمنطقة العربية بأسرها . وثمة فى تونس شعور بالرضا نوعا ما بين أطياف واسعة بالمجتمع إزاء صمود مؤسسات الدولة وتماسكها فى مواجهة هجوم داعش على بن قردان . وهذا الأمر لا يتعلق فقط بالأداء المعلوماتى والقتالى لقوات الجيش والأمن مع معركة 7 مارس ومابعدها . بل وإزاء القدرة على توفير احتياجات سكان المدينة دون نقص رغم الظروف الأمنية الاستثنائية وحظر التجول. والأهم أيضا هو أن القوات لم تتورط فى ممارسات عقاب جماعى تفقد عملياتها ببن قردان تعاطف المواطنين.وهذا مع أن نسبة من الدواعش المهاجمين والملاحقين هم من أبناء المنطقة ،والمعروف عنها بالأصل قوة عصبية القبلية والعائلية مقارنة بعموم تونس . تاريخ الإرهاب مع الدولة الوطنية بتونس لا يبدأ عقب ثورة 14 يناير 2011 وما لحقها من ضعف فى هيبة السلطة من الطبيعى أن يرافق إعادة بناء المؤسسات ومراجعة القيم والسياسات . و يمكن التأريخ له بالهجوم على مدينة قفصة ومحاولة احتلالها عام 1980من مسلحين قيل إنهم موالون للعقيد معمر القذافى . وثمة محطات لاتنسى عند التونسيين كتفجيرات فنادق سوسة والمنستير 1987 و كنيس الغريبة بجربة 2002 وعملية سليمان 2007. وهناك خيوط طالما ربطت إرهابيين تونسيين بمايسمى « الجهاد المعولم « منذ حرب أفغانستان فى الثمانينيات. وبعد الثورة يمكن القول بأن ماضى الإرهاب القريب انتقل بين مراحل غلب على كل منها سماتها .وهكذا من التعبئة من أجل التطرف والاحتكاك العنيف بالمجتمع ومثقفيه ومبدعيه عامى 11و 2012 إلى الإغتيالات السياسية 2013 إلى عام التفجيرات 2015. ولأن الهجوم على بن قردان ولاعتبارات عدة بمثابة نقلة نوعية فى استهداف الارهاب لتونس بعد الثورة،ولأن هنا اعتقاد كبير بأن بن قردان ليست سوى معركة فى حرب لم تنته ولها ما بعدها ، فإن السؤال المطروح هو :كيف نستكمل المواجهة كى نفوز فى الحرب؟.. وعلى الصعيد الأمنى والعملياتى بادرت القوات الأمنية التونسية بشن حملة هجمات وملاحقات غير مسبوقة على الإرهابيين فى مختلف أنحاء البلاد ،وبخاصة فى الولاياتالغربية الملاصقة للجزائر حيث يتحصنون فى المناطق الجبلية . وبدت هذه الحملة بمثابة هجوم استباقى للحيلولة دون نزول إرهابيين الى المدن وشن هجمات انتحارية بها .كما أدى تلقى حسين العباسى الأمين العام لاتحاد الشغل كبرى مؤسسات المجتمع المدنى والحاصلة على نوبل للسلام هذا العام رسالة تهديد باغتياله الى تشديد الحراسات على الشخصيات العامة خشية عودة الارهاب الى اسلوب الاغتيالات. وعلى صعيد أبعد سعت الدولة الى احكام السيطرة على الحدود الليبية والجزائرية وترسيخ علاقات التعاون الاقليمى والدولى فى مكافحة الارهاب . فزار وزير الداخلية نهاية الاسبوع الماضى الجزائر .ورعت الدبلوماسية التونسية اجتماعا لوزراء خارجية جوار ليبيا .وهى تدفع مسكونة بخشية المخاطر المحتملة عبر الحدود لضربة دولية جوية كبرى على معسكرات داعش بليبيا الى التعجيل بدخول فائز السراج وحكومة الوفاق الوطنى الى طرابلس .وهو حدث أصبح متوقعا فى غضون أيام قليلة وإن لم يكن قبل نهاية هذا الأسبوع. بل واتجهت الدولة التونسية لروسيا للحصول على اسلحة لمكافحة الارهاب و صور أقمار صناعية للحدود ، فيما يستعد الرئيس السبسى لزيارة موسكو صيف هذا العام .وكلها متغيرات مستجدة فى سياسة تونس التى اعتمدت منذ الرئيس الأول للجمهورية بورقيبة الاتجاه غربا والتحالف مع باريس وواشنطن . لكن التعبئة الكبرى ضد الارهاب تجرى على جبهة المجتمع وفى حقل السياسة ،وتحديدا داخل المجتمع المدنى .وهو قوة حيوية مؤثرة فى السياسة بتونس .ولا يتوقف الأمر على دعم جهود الدولة لاستعادة نحو خمسين مسجدا خارج سيطرتها أو جمع المساهمات المالية لتمويل الحرب على الارهاب أو شن الحملات الجماهيرية . فقد تشكلت قبل أيام «اللجنة الوطنية لمكافحة الارهاب» لتجمع ممثلين عن مؤسسات الدولة والمجتمع المدنى .وهى خطوة تأخرت منذ النص عليها فى قانون مكافحة الارهاب الجديد يوليو الماضى . كما من المقرر أن يتوج الحوار الوطنى حول التشغيل ومن أجل مكافحة البطالة أعماله بجلسه ختامية بعد غد ( الثلاثاء ) . وهو آلية مهمة لتجفيف منابع التطرف بين الشباب . ولاشك ان المجتمع التونسى يعرف كغيره من المجتمعات التى تواجه خطر الارهاب جدلا مع دعاة التضحية بالحريات من أجل كسب هذه الحرب . وهو أمر يولد مخاوف على التجربة الديمقراطية الناشئة والمهمة فى هذا البلد العربى . ومع هذا فإن الديمقراطية تكسب نقاطا للأمام. ولاأدل على هذا من سن البرلمان بعد أيام من هجوم بن قردان قانونا متقدما للشفافية وضمان النفاذ الى المعلومة . وفى هذا السياق ، كسب الصحفيون والمجتمع المدنى معركة مهمة من أجل تعديل نصوص فى مشروع القانون لصالح المزيد من الشفافية وحرية الصحافة . وهو ما يعزز الاقتناع بأن الإعلام الحر سند فى الحرب على الإرهاب.