المقولة الشهيرة عن تكرار التاريخ فى احدى صورتين هما المأساة والملهاة غالبا ما تستمد صدقيتها من أمثلة منها ما نعيشه الان، فبعد قرن من معاهدة سايكس – بيكو نجد انفسنا كعرب مهددين بتقسيم جديد، لكنه اقرب الى ما يسمى التذرر، بحيث يتحول العالم العربى الى كسور عشرية وفق مقياس رسم طائفى ومذهبى وجهوى ايضا، وهكذا تصبح التضاريس السياسية للعالم العربى خطوط طول وعرض تحددها استراتيجيات دولية مشتبكة حول منطقة كانت على الدوام مجالا حيويا لتمدد امبراطوريات، وطالما سال لعاب خيول الغزاة على تخومها وثغورها من مختلف الجهات . انه تزامن مُثير، ودراماتيكى بين عدة مئويات تحل ذكراها مع هذا العام الجديد 2016، مئوية سايكس بيكو ومئوية الحرب العالمية الاولى ومئوية سقوط الامبراطورية العثمانية، بعد ان اصبحت تسمى الرجل المريض المسجى على مائدة، وحوله المباضع التى تحوله الى غنائم، والعالم العربى كان لقرون محكوما بالعثمنة، وهو مصطلح مزدوج الدلالة، سياسيا وحضاريا لأن استراتيجية التجهيل كانت توأم استراتيجية التتريك، واضافة الى تلك المئويات نحن على بعد اقل من عام من مئوية ترتب عليها احتلال واستيطان قوس ذهبى من الجغرافيا المقدسة هو مساحة فلسطين ما بين البحر المتوسط ونهر الاردن . حدث خلال القرن الماضى هزات تاريخية كبري، منها ما تخطيّ الحدّ الاقصى لمقياس ريختر، لكن الدمار لم يكن مرئيا او قابلا للرصد بالعين المجردة، لأن تلك الزلازل تاريخية بامتياز، والقرن العشرون كما يصفه مؤرخوه هو قرن غاشم بحروبه الكونية وانقلاباته التى تستحق ان توصف بالكوبرنيكية على صعيدى التكنولوجيا ومنظومة القيم الكلاسيكية، وهو ايضا اقصر القرون لأنه بدأ مع الحرب العالمية الاولى وانتهى مع الباردة وسقوط جدار برلين واعلان نعى التاريخ حسب اطروحة فوكوياما الشهيرة وما اعقبها من هوامش حول صراع الثقافات والأديان والهويات , عربيا شهد القرن الذى ودّعناه بلا مناديل ودموع، احتلالات وانتدابات كما شهد ثورات وانتفاضات، بدءا من حادثة دونشواى الشهيرة عام 1906 ومن ثم ثورة العشرين فى العراق ومعركة ميسلون فى سوريا فى العام ذاته، اضافة الى استمرار الثورة الجزائرية ومجمل الانتفاضات التى كانت تستهدف التحرير والاستقلال، وفيه ايضا قامت ثورات بدءا من يوليو المصرية فى العديد من الاقطار العربية وكذلك حرب السويس وهزيمة حزيران وانتصار اكتوبر واجتياح لبنان، وهذه محطات يتطلب التفصيل فيها مجلدات، لكن ما يهمنا فى هذا السياق هو ان القرن الذى مضى بكل حمولته من الدم والعرق والدموع انتهى الى اول السّطر، وكان التاريخ ينمو احيانا بشكل دائري، ومن يتابع ما يصدر من سجالات سياسية ومفاوضات ومقايضات كان مجاله الأزمة السورية بالتحديد يجد ان الاسمين اللذين يتكرران فى كل نشرات الاخبار هما كيرى ولافروف وهما وزيرا خارجية كل من واشنطنوموسكو، بالطبع ليس ما يدور او بمعنى ادق ما يدار الان بين موسكووواشنطن هو ما دار بين سايكس وبيكو وما كانا يمثلان فى ذلك الوقت، لأن هناك حقيقة يجب ألا تحجبها المقارنات العاجلة بين عام 1916 وعام 2016، فالنفط كان فى بواكيره ورغم اكتشافه الا ان تقسيم العالم العربى فى ذلك الوقت كان سيختلف جذريا لو ان النفط على ما هو عليه الان . لأن ما يلعبه النفط والغاز فى هذه الفترة هو دور البطولة لا الكومبارس فى رسم التضاريس السياسية وخطوط الطول والعرض، وهناك قرينتان على الاقل ينبغى ألا ننساهما الان، هما استدارة الولاياتالمتحدة الى المحيط الباسفيكي، والقيامة الروسية بعد سبات سيبيرى دام طويلا منذ البيروسترويكا والانقلاب الجورباتشوفى الذى اوشك ان يطرد موسكو من دوائر القرار الدولي، اضافة الى الالحاح الامريكى والاوروبى على ان روسيا ضمت شبه جزيرة القرم بالاستيلاء على خريطتها، وكان اول تعبير رمزى عن ذلك صدور خرائط جديدة ذات صلة بالرياضة حذفت منها القرم من التضاريس الروسية، ومعنى ذلك ان المقايضات والصفقات السياسية ممكنة، بل هى من الديناميات الاكثر تكرارا فى التاريخ كله . والاهم من ذلك، هو ان المقايضات لا بد ان تكون ذات اعراض جانبية منها ما تتأثر به دول تعانى من أزمات تهدد كيانها، وهى بالتالى تلجأ الى هذه القوة او تلك من اجل بقائها، ومنذ انفرد قطب واحد بالاستحواذ على هذا الكوكب تحولت بعض الدول الى ما يشبه شجرة اللبلاب التى لا تقوى على الوقوف بمفردها إذ لا بد من سند او جدار . لقد كان امام الوطن العربى قبل ان يتحول الى عالم عربى فرص ذهبية لاستكمال حروب الاستقلال، وتبنى استراتيجية التكامل بدلا من التآكل لكن ما حدث هو عكس ذلك تماما، فالحروب العربية العربية احرقت ودمّرت الكثير، ليس فقط اقتصاديا، بل بما بثّته من فيروسات فى الثقافة القومية ولم تسلم حتى المباريات الرياضية من تأثير هذه الفيروسات . ويكفى مثال واحد فى هذا السياق هو ما احدثه احتلال العراق للكويت، فقبل الثانى من آب عام 1990، كان لمفردات مثل الاحتلال والغزو والتحرير دلالة واحدة، تتعلق بفلسطين والصراع العربى الصهيوني، لكن بعد ذلك التاريخ اصبحنا بحاجة الى ان نسأل من يذكر الاحتلال والتحرير عما يعنيه بذلك ؟ واذا كانت حرب حزيران بخلاف ما يقال عنها، لأن اليوم السابع من ايامها استمر على حرب اكتوبر عام 1973 فإن الثانى من اب لا يزال اليوم الاطول فى تاريخنا المعاصر، لأن ما جرى بدءا من حصار العراق واحتلاله وتفكيك جيشه وحربه الطائفية حتى الان كان من نتائج ذلك اليوم القائظ من شهر آب، فهل كانت اضاعة الفرص للالتئام القومى ولو فى الحد الادنى بمثابة النزيف من كل الخاصرات والأقرب الى الانتحار ؟ وهل كان قرنا من المراوحة على طريقة محلك سر، او ما اشبه الليلة بالبارحة، فعدد المرات التى تكرر فيها اسم الثنائى كيرى ولافروف خلال عامين فقط يعادل ما تكرر من اسم الثنائى سايكس وبيكو خلال قرن، ولو نجح العرب فى تعريب ازماتهم لما تحولوا خلال خريف بلغ العام السادس من عمره الى غنائم، ولما تحول فائض الثروة الى مديونيات وفائض الثورات الى فوضى مدمرة، ورغم وفرة التجارب فى الذاكرة العربية عن الاستغاثة ضد ذوى القربى بدءا من امرئ القيس الذى لاذ بالقيصر ليعينه على ابناء عمومته واهداه حلّة مسمومة ما إن ارتداها حتى تهرأ جلده ودفن غريبا فى جبل عسيب بتركيا حتى آخر عربى يتسول البقاء من سدنة النظام الدولى . اخيرا، بل اولا، كفانا تواطؤا وتجنبا للحقائق، فالنعامة التى اغمدت رأسها فى الرمل لم يبق فى جسدها مكان لسهم جديد، وكذلك الشعوب التى تعالج الشلل الرباعى بكمادات منقعة فى الدم وليس فى الماء !! لمزيد من مقالات خيرى منصور