ارتبطت ثلاث ثورات في تاريخ مصر الحديث (العرابية 1882 ويوليو 1952 و25 يناير2011) بالجيش, فقد انطلقت منه في الأولي ثورة سلمية بقيادة أحمد عرابي في تعبير عن الهوية الوطنية المصرية بعد عصور من الاحتلالات والحكم الأجنبي, دفاعا عن مصالح مصر. والمصريين في حياة كريمة دون استعباد أو توريث, وخرجت منه في الثانية ثورة سلمية بقيادة مجموعة من الضباط, علي رأسها جمال عبد الناصر, لتنهي عصور الاحتلالات الأجنبية وتتيح الفرصة لأول مرة منذ أكثر من ألفي عام لكي يحكم مصر مصري, وتحقق طموحات الشعب في بناء دولة وطنية مستقلة وتأميم قناة السويس وتحقيق العدالة الاجتماعية, وفي الثالثة انحاز الجيش لمطالب الشعب وثورته المشروعة وحسم الأمر لمصلحتها في 18 يوما فقط. هذه المواقف جعلت للجيش مكانا علي لائحة الاستهداف من جانب القوي الأجنبية, وعلي سبيل المثال فقد كان أول قرار بعد الاحتلال البريطاني لمصر 1882 هو إحالة الضباط المصريين للاستيداع ووقف صرف رواتبهم وتعيين ضابط انجليزي قائدا للجيش. كما جعلت هذه المواقف والتضحيات للجيش مكانة في نفوس المصريين, تجلت في النداء علي الجيش في الأزمات مثلما كان الهتاف في ميدان التحرير خلال ثورة 25 يناير واحد اثنين الجيش المصري فين وبعد 11 فبراير ز س. وعلي الرغم من تكرار المجلس الأعلي للقوات المسلحة أكثر من مرة التزامه بتسليم السلطة لرئيس مدني والعودة للثكنات (وهو مايعني خروج الجيش من المعادلة السياسية لأول مرة منذ 60 عاما) فإن هناك تصعيدا غير مبرر في مسألة تسليم السلطة, وتعرض الجيش بفعل فاعل لإهانات منذ التاسع من يوليو الماضي لم يتعرض لها في تاريخه بلغت حد تهديد كيان الدولة بالدعوة ثم بمحاولة اقتحام وزارة الدفاع, في محاولة مشبوهة لجر الجيش لصدام, وتحولت شعارات النداء علي الجيش وتقدير دوره لمصلحة الثورة إلي شعارات مضادة, وبدا شعار يسقط حكم العسكرس ذ ذ أمريكا اللاتينية في روايات جارسيا ماركيز. لقد كان سر قوة ثورة25 يناير في سلميتها, بينما تراوح الثورة السورية مكانها بسبب نجاح أطراف داخلية وخارجية في أن تفرض استخدام السلاح عليها, فدخلت بذلك إلي ساحة يتفوق فيها النظام الحاكم, بينما حكمة غاندي الخالدة: أن الجماهير المسالمة العزلاء أقوي من القوة المسلحة لأن طعنة السلاح كمن يحاول قطع الماء بالسيف فتهديد رمز قوة الدولة وشرفها وتهديد كيان الدولة يطرح التساؤلات عمن سيقوم بثورة الغضب الثانية وضد من ستكون؟! لقد شهدت الفترة الماضية أخطاء من جميع الأطراف من دون استثناء, وربما من بينها أيضا عدم تعريف المجلس الأعلي الناس بالجيش ودوره, الوطني بشكل جيد وكاف, وحسن النيات في التعامل مع بعض الأطراف والمبالغة في تقدير وزنها, والتهوين من وزن أطراف أخري علي الساحة. علي أية حال لا يزال الكثير من الأسرار لم يكشف عنه النقاب بعد, لاسيما الدور الاقتصادي والاجتماعي للجيش طوال سنوات بيع أصول الدولة وبترولها وغازها, وهو دور أسهم في تماسك الدولة واقتصادها خلال ال13 شهرا الماضية, فضلا عن دوره في إفشال مشروع التوريث. وربما جاء بيان المجلس الأعلي للقوات المسلحة الأخير بعد هذه المشاهد العبثية في العباسية, بداية لوضع الأمور علي الطريق الصحيح, وقد ظهر ذلك في تنفس الشعب الصعداء لفشل محاولة اقتحام وزارة الدفاع واجهاض مشروع الوقيعة بين الجيش والشعب, وفي ارتياح الغالبية العظمي, من البيان الذي يبدو أنه ستتلوه بيانات أخري وموقف شعبي إذا استمرت محاولة الاحتكاك بالجيش وإهانته وكذلك في الحديث عن رد الاعتبار للرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومواقفه من بعض التيارات الإسلامية, فمن يتعامل مع الأمور بجدية عليه أن ينتبه إلي التحذير من المساس بشرف العسكرية المصرية. يعاني المصريون من مشكلة عدم إنشغال نخبهم السياسية بالتفكير في اليوم التالي لذا تواجه الثورة منذ رحيل مبارك في 11 فبراير كل العقبات التي تحول دون تحقيق أهدافها, والآن يهتف البعض باتجاه المجلس الأعلي للقوات المسلحة بشعار إرحل أيضا؟!!... أفليس من الواجب أن نفكر إذن في.... لماذا الآن؟ وماذا في اليوم التالي للرحيل فورا؟!! الشاهد أن هناك سيناريو للفوضي والعنف. تعد الثورات الشعبية أبرز وسائل نقل السلطة عبر إرادة الجماهير, لكن نجاحها يعتمد بدرجة كبيرة (في مجتمع بمواصفات النظام السابق) علي موقف القوة منها, فالنظم الحاكمة عندما تواجه احتمال السقوط عادة ماتستخدم كل ماتملكه من وسائل القوة لإجهاض الثورات الشعبية, لكن إنحياز الجيش للثورة كان عاملا حاسما لنجاحها, وهذا هو ماحدث مع ثورة 25 يناير التي عبرت عن رغبة شعبية في التغيير, إنحاز الجيش الي مطالبها المشروعة, ليس فقط لكونه مؤسسة وطنية شاركت الشعب أهداف ثورته, بل لأن الأوضاع كانت قد أوشكت علي المساس بالنظام الجمهوري وتهديد كيان الدولة, وهو التهديد الذي يراوغ المصريين حاليا بأساليب وبأشكال مختلفة. فالاختيار بين مصر وبين فئة يتملكها جشع السلطة كان وسيستمر اختبارا سهلا. المزيد من مقالات محمد عبد الهادى