تخصص إحدي الإذاعات المصرية ليلا ساعة لحفلات عبدالحليم حافظ تعقبها ساعة لحفلات أم كلثوم,لاحظت أن المزاج يتغير سريعا بين الفقرتين, يحيرني كثيرا أن حفلات حليم والست في الفترة نفسها علي المسارح نفسها بتقنيات تسجيل واحدة, لكن ثمة شيء غريب في حفلات أم كلثوم, للموسيقي التي تعزفها فرقتها حضور طاغ تكاد تلمسه, ليس للأمر علاقة بالألحان وكلاهما ربما يغني في فقرتين متتاليتين لملحن واحد, لكن للأمر علاقة بجودة المنتج الموسيقي, الموسيقي القادمة من حفلة أم كلثوم لها رهبة مختلفة, تأتيك صافية متماسكة بها مساحة للسلطنة أضعاف تلك الموجودة في حفلات بقية مطربي جيلها. قلت لنفسي ربما هي تهيؤات, ثم لفت نظري أحد المؤرخين الموسيقيين في مقال إلي أن الفرق الموسيقية التي تلعب خلف حليم والآخرين تعتمد علي النوتة الموسيقية, بينما لا توجد نوتة واحدة في أي حفل للست, الأمر الذي يفسر وجود مايسترو في كل الحفلات( كان حليم يلعب هذا الدور بنفسه) إلا حفلات الست. ثم كانت المفاجأة عندما قرأت أن فرقة الست لم تعرف يوما ما هي الأغنية الثالثة في الحفلة التي ستبدأ بعد قليل, كانت الست تقدم في الوصلة الأولي آخر أغنية قدمتها قبل الحفل, و في الثانية تغني أحدث أغنياتها, و في الثالثة تغني ما تراه مناسبا لمزاجها أو لمزاج الجمهور, لم يحدث بسبب اختيار الست المفاجيء أن سقط الإيقاع أو ارتبك الأداء, الأمر الذي يشرح قدر التماسك الفني الذهني المميز لفرقة الست بما يجعلهم شركاء أصليين في التجربة, يمكن اعتبارهم بدون مبالغة( صنايعية الست). كان المايسترو الخفي للفرقة هو عازف القانون( محمد عبده صالح) الذي رافقها منذ عام1929, يقول المتخصصون لولاه لاضطرت الست إلي استخدام النوت الموسيقية, كانت حركة أصابعه علي القانون دائما هي مفتتح الفرقة للدخول في مقطع جديد أو للإعادة. كان جده عازف الناي الخاص بالسلطان عبد الحميد, و تفتحت عيناه علي جلسات الفن بين والده والشيخ سيد درويش, اشترك مع أم كلثوم في اختيار العازفين المهرة, وكانت النظرية المؤسسة لبروفات الفرقة هي الإفراط في الإعادة و التجويد حتي يصير اللحن جزءا من شخصية العازف, تحررت الفرقة من قيد النوتة وتم استبدالها بفتح باب التجويد و لم يكن التجويد متروكا للصدفة لكنه أيضا كان قيد تمارين كثيرة و بروفات لا تنتهي مكافأتها تثبيت مكان العازف في الفرقة دون أن يعني هذا زيادة في الأجر, كان أجر الفرقة في الحفل650 جنيها, كان مثلا أجر أحمد الحفناوي عازف الكمان الأول في مصر وفي فرقة الست15 جنيها شاملة أتعاب الحفل و17 بروفة عليه, يقول المؤرخون إن الحفناوي لم يكن الأقوي بين زملائه في تقنيات الكمان, إلا أنه كان يتفوق عليهم بعمق إحساسه في أداء المقامات العربية, بإحساس لم يكن يجاريه فيه أحد, مما دفع أم كلثوم, منذ أن كونت فرقتها الموسيقية الثابتة إلي وضع الحفناوي في صدارة كتيبة آلات الكمان التي كانت تشكل العمود الفقري للفرقة, كان الحفناوي دائما يرتدي جاكيت بدلة أبيض خلافا للفرقة كلها وهو تمييز يصعب الحصول عليه تحت قيادة الست لولا أنه يستحقه كفنان نادر. كانت كتيبة الكمانجاتية تضم أيضا كريم حلمي, وعبد المنعم الحريري, و محمود القصبجي الذي قال: الشعور الذي يستولي علي نفسي حين أجلس وراء أم كلثوم أشبه بشعور المصلي الذي يتأهب لأداء الصلاة, كان هناك أكثر من17 عازف كمان وعازف ناي واحد( سيد سالم) الذي قضي حوالي عشرين عاما مع أم كلثوم, في بروفات اغنية يامسهرني كان سيد سالم يعزف الجزء الخاص بالناي بسرعه اكثر من المطلوب وعندما سألته السيده أم كلثوم عن سبب ذلك وكان معروفا انه كان يتهته في الكلام فرد عليها قائلا اص اص اص اص فردت ثومه قائله ايوه انا عايزاك تعزفها بنفس طريقة كلامك, بعد رحيلها قام بتسجيل ألحان الست علي الناي في شريط كاسيت ثم اعتزل العزف. وفي أواخر حياته عام1994 اصابته جلطة بالمخ ولم يجد اي اهتمام من الاطباء عند دخوله مستشفي الأنجلوا, وفي أيامه الأخيرة كان يطلب من إبنته ان يستمع للشريط الذي قام بتسجيله الخاص بعزف اغاني ام كلثوم وكانت أعينه تفيض بالدمع. أما عازف الكونترباص( عباس فؤاد) فقد صاح موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب, بعد دقة واحدة من فؤاد علي أوتار آلته, قائلا: أنت حاجة عظمة خالص. ليصبح عظمة هو اسم الشهرة الذي التصق به طوال عمره. هذا الإطراء من موسيقار الأجيال جاء خلال غناء الست أنت عمري في إحدي الحفلات, وتحديدا في وصلة العزف المنفرد لعباس فؤاد حيث صاح عبد الوهاب من خلف الكواليس: عظمة علي عظمة, والتقطها الجمهور, ورددها مجددا. بعد انتهاء الحفل, سألت أم كلثوم عباس فؤاد, هو عبد الوهاب كان بيقول عظمة علي عظمة ليك ولا ليا؟, فأجاب بضحكة: أكيد ليكي يا ست فردت يا كداب. أما فاروق سلامة عازف الأكورديون فقد تحايل بليغ حمدي كثيرا ليزج به داخل المنظومة وسط تحفظ العازفين و أم كلثوم نفسها, لكن بعد بروفات كثيرة علي( سيرة الحب) حجز لنفسه مكانا ثابتا, ولو فتشت عن الحفل الأول لهذه الاغنية ستلاحظ كيف كانت أم كلثوم تنظر له و كلها خوف و توتر لم يزل إلا بعد أن استقبل الجمهور وصلته بتصفيق حار. أما ضابط إيقاع الفرقة فقد كان ضابط إداريات الفرقة أيضا: في الوقت نفسه, شاب اسمه حسين معوض كانت أغنيات الست تعينه علي استذكار المواد الحقوقية حتي تخرج و أصبح محاميا ناجحا, قرر سرا أن يدرس العزف علي الرق من فرط محبته للست, ثم جاءت الفرصة فانضم كعازف بالفرقة و اعتزل المحاماة, لكن لمحت الست فيه بداهة ما جعلتها تعتمد عليه في إدارة شئون الفرقة حتي أصبح هو المدير الإداري لها حتي رحيل الست, لم يكن حسين معوض هو عازف الإيقاع الوحيد في الفرقة كان إلي جواره عازف بنجز( أحمد صبحي) وعازف طبلة( سيد كراوية). هناك من يشبه الست ب( السد العالي), كان المؤلفون و الملحنون هم العمال و المهندسون الذين شاركوا في هذا البناء الضخم, لكن ما هو موقع فرقة الست من الحدث؟, أؤمن تماما أن فرقة الست هي( جسم السد). ......................................... مصادر: تحقيقات ل( د.فريد الجراح, محب جميل, نسرين درزي, إلياس سحاب, المؤرخ الموسيقي لجريدة الجريدة العراقية).