خيوط كثيرة تجمع بين الصحفي والسياسي غير أن هناك خيطا رفيعا يجب أن يفصل فيما بينهما أحيانا, وفي الأسبوع الماضي فقدنا اثنين من المع نجوم الصحافة والسياسة هما الجورنالجي محمد حسنين هيكل, والدبلوماسي بطرس غالي وقد شاء القدر أن يعيشا معا نفس مشوار العمر تقريبا بفروق طفيفة لا تزيد علي السنة الواحدة ونفس الأحداث, وأن اختلفت مواقف ومواقع كل منهما, إلا أن ما يجمع بينهما بالإضافة إلي السن والأحداث, هو الكفاءة والتميز كلا في مجاله. هيكل وغالي قدما نموذجين مفعمين بالحيوية والتجارب الثرية لمن يرغب من الأجيال الحالية في التعليم والاستفادة بعيدا عن الاتفاق أو الاختلاف مع موقف هذا أو ذاك. هيكل الجورنالجي هو ما يهمني شخصيا بعيدا عن هيكل السياسي الذي اختلف معه فهو نموذج للصحفي العبقري المتمكن من أدواته, والإداري الناجح الذي استطاع أن يجعل من الأهرام مؤسسة صحفية ضخمة وعملاقة تتصدر المؤسسات الصحفية في العالم والشرق الأوسط بلا منازع وتحتل مكانتها ضمن أكبر عشر مؤسسات صحفية في العالم كله لأنها أصبحت الأولي توزيعا, وهي التي تملك أضخم أسطول توزيعي في الشرق الأوسط وهي التي تملك أيضا أضخم وأكبر مطابع في مصر والشرق الأوسط, وفي عصر هيكل استطاعت مؤسسة الأهرام أن تحتل المكانة الأولي في كل شيء حتي كان تعبير سيدة الغناء العربي أم كلثوم الشهير وهي تزور الأهرام بعد أن انتقلت إلي مبناها الحالي بأنها فكرت أن تخرج جواز سفرها علي الباب لحجم النقلة التي شعرت بها في داخل الأهرام. هيكل الصحفي استطاع أن يعزل قناعته السياسية عن عمله الصحفي ولم يجعل أفكاره السياسية هي المتحكم في عمله فتحولت الأهرام إلي منصة لكل الآراء والأفكار والتيارات بعيدا عن التوجهات السياسية والأيديولوجية لأن الصحافة الايديولوجية تسقط دائما وتموت في أقرب محطة, فالصحفي من حقه أن يقتنع بما يشاء لكن ليس من حقه أن يجعل تياره السياسي وقناعته الايديولوجية هي المحرك الأساسي في عمله فيتحول مكان العمل إلي مكان للشلة والأصدقاء والتيار السياسي علي حساب المهنة ومصلحة المؤسسة. وقد حكي لي الأستاذ مكرم محمد أحمد كيف تصدي الأستاذ هيكل لفصل الزملاء في مذبحة الصحفيين الشهيرة آنذاك وكان الأستاذ مكرم واحدا منهم وأصر هيكل علي دفع مستحقاتهم كاملة حتي عادوا إلي أماكنهم, وقد روي لي الأستاذ مكرم تلك القصة في اطار المقارنة بين موقفه وبين ما حدث بعد ثورة يناير حينما كان بعض الزملاء الذين ينتسبون للمهنة زورا وبهتانا يحرضون ضد زملائهم والتجهيز لمذبحة جديدة للصحفيين لولا وقفتنا في النقابة ضدهم ووأد هذه المهزلة في مهدها. علي الجانب الآخر وبنفس القدر من المهنية والتميز كان أداء الراحل بطرس غالي الذي جمع بين الصحافة والسياسة فهو أول رئيس تحرير لمجلة السياسة الدولية العملاقة التي تصدرها مؤسسة الأهرام والتي تعتبر مرجعا مهما لكل العاملين في السلك الدبلوماسي وطلبة الاقتصاد والعلوم السياسية والدارسين والباحثين المهتمين بهذا المجال, وظل كذلك حتي أصبح وزيرا للدولة للشئون الخارجية, وظل لفترات طويلة يتحمل عبء مسئولية السياسة الخارجية لمصر حتي تم تعيينه نائبا لرئيس الوزراء, وشارك بفاعلية في مفاوضات كامب ديفيد الشهيرة التي استرجعت لمصر حقوقها في أراضيها المحتلة حتي عادت كاملة إلي أحضان الوطن. فوق كل ذلك فقد كان مصريا وطنيا حتي النخاع وحافظ علي هويته المصرية والعربية حينما تولي منصب الأمين العام للأمم المتحدة ورفض أن يساوم أو يناور في حقوق أمته العربية, وظل مدافعا صلبا عن القضايا المصرية والعربية رافضا الخضوع للوبي الصهيوني والأمريكي وحينما تآمرت أمريكا وحليفتها إسرائيل عليه تمهيدا للإطاحة به رفض التنازل أو الخضوع, وفضل التضحية بأرفع منصب عالمي وهو منصب الأمين العام للأمم المتحدة علي أن يساوم علي قضايا وطنه وأمته. بطرس غالي نموذج مصري وطني رفيع يجسد الشخصية المصرية الوطنية الخالصة التي تمتد جذورها إلي آلاف السنين والتي نحتاج اليها في الوقت الحالي ليقف أمامها الأجيال الشابة التي تريد التقدم لوطنها بعيدا عن الاستخفاف أو الهوس والانبهار بالغرب من جانب أو التطرف والتعصب والانغلاق والجمود من جانب آخر. لمزيد من مقالات عبدالمحسن سلامة