الصحافة مهنة ولها أسرارها مثل غيرها من المهن، ولكى تنجح فى الصحافة لابد أن تعرف أسرارها، وتفهم طبيعتها، وأن تمتلك رؤية التطوير والاستيعاب بعيدا عن الجمود والانغلاق. منذ 140 عاما انطلق «الأهرام» وطوال هذه الفترة جرت مياه كثيرة فى نهر الصحافة، فهناك عدد هائل من الصحف ظهرت واختفت، لكن الصحيفة الوحيدة التى صدرت وانتظمت وتألقت كانت هى الأهرام، لأنها احتفظت «بسر الصنعة» وحافظت عليه رغم مرور بعض «سحب الصيف» من القيادات عليها ممن حاولوا العبث فى «سر الصنعة» والانحراف بمسارها، إلا أن البناء التراكمى المحكم جعل الأهرام تصمد، ويزول هؤلاء، لتظل محتفظة بمكانها ومكانتها وريادتها فى مجال الصحافة المطبوعة. سر الصنعة فى الأهرام يقوم على أسس متعددة أهمها الوقار والرصانة، فهى صحيفة المعلومة والخبر الصادق حتى وإن تعارض ذلك مع السرعة والسبق، فالصدق والموضوعية لهما الأولوية، والبعض يرى أن ذلك يتعارض مع السرعة والسبق الصحفي، لكن هذه الرؤية غير صحيحة فهناك فرق شاسع بين الشائعة والخبر الصادق، ومادام الأمر «شائعة» فلا علاقة له بالمعلومة والخبر.. فإما أن تكون هناك معلومة حقيقية أو أن تكون اشاعة، وحينما تكون هناك معلومة مؤكدة يكون السبق والانفراد وهو ما كانت الأهرام تتمتع به خلال عقود طويلة، لا تنشر إلا ما هو صحيح بعيدا عن «الفبركة» والصحافة الصفراء. المحور الثانى ل «سر الصنعة» هو الاجتهاد والتميز، فقد كانت الأهرام هى الأولى فى أشياء كثيرة فهى أول من أدخل الحوار الصحفى كفن من الفنون الصحفية، وهى أول من نشرت الصور الفوتوغرافية، وهى أول من نشرت الإعلانات، وهى التى تملك الآن، أضخم وأحدث قلعة طباعية فى مصر والشرق الأوسط، وهى التى تملك الآن أيضا أضخم وأحدث أسطول توزيع فى مصر والشرق الأوسط، وهى التى تملك أضخم وأكبر شبكة مراسلين ومندوبين فى مصر والخارج حتى الآن ولا ينافسها فى ذلك إلا بعض كبريات الصحف العالمية القليلة، أما التحدى الأكبر الآن ومستقبلا فهو كيفية الاستمرار فى الاحتفاظ بالتفوق والانفراد والتميز فى كافة المجالات الصحفية والطباعية والتسويقية بعيدا عن الانغلاق والجمود. المحور الثالث لسر الصنعة هو التنوع فلم تكن الأهرام أبدا منبرا لاتجاه واحد أو منصة إيدلوجية، وسجلت الاهرام أفضل نجاحاتها حينما كانت نموذجا للتنوع الفكرى والثقافى تضم نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وثروت أباظة من الليبراليين إلى جوار لويس عوض ولطفى الخولى ومحمد سيد احمد ويوسف إدريس من اليساريين وإلى جوارهم عبدالرحمن الشرقاوى ود. عائشة عبدالرحمن ومصطفى محمود من الإسلاميين وغيرهم من التيارات الفكرية والثقافية والسياسية المتنوعة، يخوضون المعارك الفكرية على صفحاتها دون أن تضيق بهم ذرعا، ودون أن تحاول أن تعصف بالبعض منهم على حساب البعض الآخر. تلك الخلطة السحرية كانت سببا رئيسيا فى تألق الاهرام ومصدرا من مصادر الإشعاع الفكرى والثقافى حتى تحول الدور السادس فيه إلى مايشبه المجمع العلمى والفكرى والثقافى يضم عقول مصر ومفكريها ونخبتها التنويرية وحينما جاءت مذبحة الصحفيين الشهيرة فى السبعينيات وصدرت قرارات بإبعاد عدد كبير من الصحفيين من ذوى الاتجاهات والآراء المخالفة للرئيس السادات صمدت الأهرام ورفضت تنفيذ تلك الإجراءات فعليا كما روى لي ذلك الموقف الاستاذ مكرم محمد احمد أحد الذين شملهم قرارات الفصل آنذاك، حيث أبلغه الأستاذ محمد حسنين هيكل أن كل مستحقاته هو والآخرين »مصانة« ولن تتأثر حتى تم العدول عن تلك القرارات التعسفية وظلت الأهرام محتفظة بتلك الميزه والتنوع حتى نهاية فترة الأستاذ ابراهيم نافع. بعد ثورة 25يناير قامت الإخوان ومعها بعض القوى المعادية لحرية الصحافة والتى تدعى الثورية زورا وبهتانا بإعداد مذبحة جديدة للصحفيين ونشرت بعض الصحف الخبر فى صدر صفحاتها الأولى إلا أن مجلس النقابة بكاملة والذى كنت وكيلا أول له تصدى للموقف بكل قوة وظلت اجتماعاتنا مستمرة حتى تحرك د. على السلمى نائب رئيس الوزراء آنذاك وقام بتجميد هذه القرارات ومعاقبة المتسبب فيها، وإنتقلت المعركة إلى الاهرام حينما أرسل مجلس الشورى الذى كان يسيطر عليه الأخوان قائمة منع لبعض الزملاء الصحفيين، وتصدى وقتها الراحل الأستاذ لبيب السباعى رئيس مجلس الإدارة وأعضاء مجلس الادارة لهذا الموقف المشين رفضنا الخنوع للابتزاز ومنهج الاقصاء حتى انتصرت الصحافة من جديد، بقيام ثورة 30يونيو، وظلت الاهرام شامخه متصدرة المشهد الصحفى والإعلامى رغم بعض العثرات وبعض الصغائر التى مكانها سلة المهملات. لمزيد من مقالات عبدالمحسن سلامة