الصحافة «التي كانت» أو «التي لم تعد كما كانت» حديث لا يتوقف ولا يجب أن يتوقف. خاصة أن المطلوب ليس أبدا العودة الى الوراء أو التغني فقط بزمن جميل ولى والبكاء أحيانا على أطلاله بقدر ما هو التطلع الى صحف المستقبل بمسئولية أكبر وجدية أكثر ورغبة أشمل في ايجاد الأفضل والأجدى والأنفع بين صفحاتها اسما وفعلا وخبرا ورأيا في الغد القريب. نعم، ويا ريت في «عدد بكره» من صحفنا اليومية!! الأستاذ محمد حسنين هيكل وهو يتعرض مؤخرا لوصف حالة المهنة في مصر أو محنتها كتب «لكي أكون محددا فان مهنة الصحافة في ظني تواجه مشكلة أصعب وأعقد، من كل ما تعرضت له منذ عرفتها بلادنا أواسط القرن التاسع عشر» مضيفا: «.. أن المهنة الآن واقعة في أزمة مصداقية، عصفت بالكثير مما يستوجب الحرص عليه أمام قارئ ومشاهد يسأل نفسه الآن «اذا كان صحيحا ما نرى ونعيش، فكيف يكون صحيحا ما نقرأ ونسمع؟» وسواء كانت الأزمة «أزمة مصداقية» أم «أزمة أداء مهني» أم هي «أزمة مناخ يسمح بالتنوع والاختلاف» .. أو «أزمة غياب البوصلة»؟؟ علينا أن نتساءل هل هناك رغبة في الخروج من هذه الأزمة (مهما كانت التسمية) ومعرفة الطريق والسير فيه؟!. ثم هل هناك استعداد لاستخدام البوصلة وتحديد الاتجاه المطلوب والمسار المنتظر؟! واشنطن العاصمة الأمريكية بل أمريكا كلها احتفت خلال الأيام الماضية بحياة «بن برادلي» الذي فارق الحياة في يوم 21 أكتوبر 2014 وهو في ال93 من عمره. وبرادلي كان «الجورنالجي» الأمريكي العظيم الذي شغل اهتمام واشنطن وأهلها لسنوات طويلة حينما تولى رئاسة تحرير صحيفة «واشنطن بوست» لمدة 26 عاما بدءا من عام 1965.برادلي أدار حملة «ووترجيت» الصحفية الشهيرة التي طاردت الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون لشهور طويلة ودفعته للاستقالة يوم 9 أغسطس 1974. الصحفيان الشهيران بوب وودورد وكارل برنستين هما من قاما بالعمل الصحفي الشاق والجاد بملاحقة المعلومات والتحقق من خيوط الفضيحة السياسية وكيفية استغلال السلطة لأدواتها. الا أن برادلي ومعه ناشرة الصحيفة كاترين جراهام قاما برعاية وقيادة وحماية هذه الحملة الصحفية حتى وصلت الى ما وصلت اليه. ويذكر في هذا الصدد أن «كل رجال الرئيس» كتاب ووترجيت الشهير الذي كتبه وودورد وبرنستين معا تحول الى فيلم سينمائي بنفس الاسم. و»الجورنالجي» برادلي أيضا هو الذي حول «واشنطن بوست» من صحيفة محلية أو صحيفة مدينة (هي واشنطن) محدودة التوزيع والتأثير الى صحيفة أمريكية وصحيفة عالمية يقرأها ويتابعها ويتفاعل معها كل من يريد أن يتعامل مع عاصمة القرار الأمريكي والقائمين بأمرها. وكما قيل عنه فان برادلي كان يسعى خلال رئاسة تحريره ل»واشنطن بوست» أن يحرر وينشر جريدة يكون لها تأثير ونفوذ .. و»يتعمل لها ألف حساب». في عهد برادلي فازت «واشنطن بوست» ب17 جائزة بوليتزر في الأداء المميز بالصحافة وتضاعف في عهده عدد الصحفيين أو المحررين في الجريدة وأيضا أرقام التوزيع. ولأنه كان يرى أن واشنطن العاصمة حالة سياسية ومشهد اجتماعي وانساني متميز وفريد كما أن أهلها لهم ولهن أخبارهم وأخبارهن وأسلوب حياة مختلف وسهرات ولقاءات تعارف متميزة ومنافع متبادلة يجب الالتفات اليها فقد أوجد برادلي مع توليه مسئولية التحرير ملحقا يوميا خاصا يسمى«ستايل» يتناول كل هذا بكتابة مميزة وجذابة وشاملة للمشهد الواشنطني. كما أنه أهتم بشبكة المراسلين في الخارج لكى ينقل الى أهل واشنطن وأصحاب القرار فيها ما يحدث ويدور في العالم. والأهم مهنيا وأداء أوجد برادلى أيضا في فريق تحرير الصحيفة ما يسمى ب«أومبتسمان» أي «المراقب الصحفي» أو «ممثل القراء في الصحيفة» أو من يقوم بمتابعة أداء وجدية ودقة الصحيفة في تناولها لأمر ما أو قضية ما والكتابة عن كل هذا على صفحات «واشنطن بوست» ليقرأها القارئ. وبجانب النجاح الباهر والمتواصل حدث الخطأ أو ربما الخطيئة أيضا عندما قامت الصحيفة بنشر تحقيق شيق عن «عالم جيمي» طفل مدمن هيروين في الثامنة من عمره فازت كاتبته جانيت كوك بجائزة بوليتزر ليكتشف برادلي فيما بعد أن القصة بأكملها «مفبركة» ومن ثم تم اعتذار علنا من جانب الصحيفة واستقالت الصحفية وقامت بارجاع الجائزة. برادلي كان قريبا جدا وصديقا للرئيس الأمريكي جون كيندي الذي تم اغتياله في نوفمير 1963. قبله بشهور فقد برادلي أيضا صديقا مقربا له هو فيليب جراهام الناشر وصاحب «واشنطن بوست» الذي مات منتحرا. برادلي كما يقال كان مثالا وتجسيدا للجورنالجي حتى النخاع الغاوي المحترف الذي لا يكل ولا يمل من مطاردة الخبر والتحقيق الصحفي والأمر الأهم كان لا يبخل بما لديه من معرفة ومقدرة ورغبة وجرأة وشجاعة وحب للمغامرة وكان يعطي بلا حساب ويغامر ويقامر طالما هناك معركة صحفية يجب خوضها وانجاز صحفي يجب تحقيقه. ونقل عنه ما يصفه كمعادلة للنجاح «أن تحيط نفسك أو تختار للعمل معك أصحاب موهبة حتى لو كانوا أحيانا أكثر موهبة منك وأن تعمل معهم من أجل أن يعطوا أفضل ما لديهم». والحديث عنه فى الأيام الماضية كان حكيا وسردا ل «أسطورة» .. «سيرة بن برادلي» وما تركه من بصمة على الصحافة وعلى علاقة السلطة بالصحافة وأيضا على واشنطن وأهلها وحيها الراقي الشهير جورجتاون. بالمناسبة برادلي مع زوجته الثالثة الكاتبة سالي كوين أقاما لقاءات وسهرات في منزلهما كانت حديث أهل واشنطن وأصحاب المال والنفوذ والشهرة بها. وبعد تركه لمهامه في «واشنطن بوست» في يوليو 1991 كتب برادلي مذكراته التي أسماها «حياة جيدة » ووصفها بأنها عن الاشتغال بالصحف ومغامرات أخرى. وهكذا كان يكتب مثلما كان يتحدث (مهما بلغ به العمر) متحمسا ولماحا ونبيها ومنتبها ومتدفقا ومنفعلا و«بركانيا بشكل عام» ومنفتحا على الحياة والآخرين ومغرما بالنساء وعاشقا للصحافة كمهنة وأسلوب حياة وفي كل الأحوال موهوبا وذكيا في التقاط كلماته اللاذعة وقولها أو كتابتها دون حرج أو تردد أو خوف.. وقد حضرت أكثر من مرة في السنوات الماضية لقاءات عامة أجريت مع بن برادلي وهو يتحدث عن مذكراته والصحافة وبالطبع عن «ووترجيت» وحرب فيتنام وعن واشنطن وأهلها وعن البيت الأبيض وعلاقته مع الصحفيين. ولا شك أنه كان عملاقا بتجربته المتميزة وتدفق أفكاره وطلاقة لسانه وجرأة حديثه ومتعة حكيه لحياة حافلة وشاقة وشيقة.. على مدى سنوات طويلة. ولم يتردد البعض وهو يتحدث عن برادلي أن يكرر القول بأن الزمن قد تغير ولم تعد الصحافة كما كانت ولم تعد «واشنطن بوست» كما كانت .. وهو الوضع أيضا بالنسبة لواشنطن ذاتها. الا أن الحديث عن «الجورنالجي» برادلي وما أعطاه للصحافة الأمريكية يأخذني بلا شك الى كل من كان جورنالجيا متميزا وعملاقا في تاريخ مصر الحديث. وكيف كان عطاءهم ودورهم وبصمتهم وأداءهم وتأثيرهم في نشر صحف هامة ومميزة شكلت حياتنا على مر العقود. وبالمناسبة سناء البيسي في كتابها الجميل والمتميز «سيرة الحبايب» تقدم بأسلوب آخاذ أكثر من سيرة لعمالقة الصحافة في مصر مثل مصطفي أمين ومحمد التابعي وأحمد بهاء الدين وجلال الدين الحمامصي وغيرهم. ويبقى التساؤل الدائم لدى: هل يتعرف دارس الصحافة في مصر على تفاصيل حياة هؤلاء العمالقة ومن خلالهم على أسرار المهنة وأصول الصنعة و.. أيضا البوصلة والتوجه في تاريخهم الصحفي؟ أم أن دراسة الصحافة غالبا ما تختصر وتختزل في «ورش كتابة» أو «تدريس التغطية الاستقصائية» أو «استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة في الصحافة».. يعني المهم مما سبق ذكره والاشارة اليه حسب أحد الأصدقاء «الترابيزات والأطباق .. ومفيش حد بيفكر في الأكل اللي هيتقدم لنا». القضية الأساسية والحيوية في الصحافة كانت ومازالت هي المضمون .. وبلغة الأكل والمطبخ (طالما جبنا سيرة الترابيزات والأطباق) هي «الطبخة» التي تقدم وفيها ما فيها من المذاق اللذيذ والقيمة الغذائية العالية !!. وهى المعادلة الصعبة والمهمة الشاقة التي تجمع بين سرعة التقاط الخبر الصحيح ودقة صياغته وضرورة تقديمه بشكل مغر وجذاب . ونعم الطبخة «لها طعم» و«فيها نفس». وهذا هو الانفراد والتميز الذي يخلق الانطباع الجيد أولا ثم مع مرور الوقت قد تأتي الثقة والمصداقية اذا كان الطباخ أو فلنقل الصحفي في حالتنا كان جادا وماهرا وأمينا.. والحديث عن مهنة الصحافة ومحنتها الراهنة لا يجب أن يتوقف. أحد الأصدقاء المقربين وهو عادة متشائم،عندما يجد حوله احتدام النقاش حول الصحافة المصرية وما جرى لها أسمعه يقول:» الضرب في الميت حرام» وعندما يجد الدهشة والحزن على وجهي يكمل كلامه بالقول:«اذكروا محاسن موتاكم!!» وبعيدا عنه التشاؤم والمبالغة في التعبير عنه أتساءل كقارئ غاو للصحف وصفحاتها الورقية هل نجد فيها الآن ما يساعدنا على فهم ما يجري حولنا سواء في مصر أو في العالم؟ وأيضا هل نقرأ فيها ما يساعدنا على توسيع مدارك تفكيرنا وآفاق المامنا بالتحديات المصرية والانسانية التى نواجهها الآن في عام 2014؟ ثم هل تشاطرنا وتشاركنا هذه الصحف في طرح القضايا والتساؤلات وأيضا الحلول لكل جانب من جوانب حياتنا مهما كان الأمر صغيرا أم كبيرا؟؟.. وبشكل عام نتساءل ترى ما هو ذنب القارئ الذي يلجأ للصحيفة وكتابها عشما في ايجاد اجابات على أسئلته التى حيرته وتحيره.. فيزداد حيرة وتخبطا وتشوشا!!