فيما كان يتنقل بخفة بين عربات تراصت فى إشارة مرور شارع الجلاء، أخذ يشد بأنامله خيوطا على أثرها تراقصت مجموعة كتاكيت وقفت فوق سطح بلاستيكي، تناثرت حوله فقاعات صابون تسبح فى فضاء مخنوق.. جذب المشهد انتباه المارة والمعتقلين وراء عجلات قيادة انتظارا للفرج.. رغم نفاد الصبر وضيق الصدر تابع رفاق الاختناق المرورى حركة فقاعات الصابون ورقصة الكتاكيت التى ذكرتنى بلعبة مشابهة رأيتها فى المتحف المصرى قبل سنوات، ومعها تداعت صور وحكايات عن لعب وألعاب غيبها النسيان..عروسة قصاقيص جدتى القماش التى غيبتها عرائس باربى وفلة التى غزت أسواقنا..الجمل وحصان حلاوة زمان الذى خلده صلاح جاهين فى صورغنائية.. مشاهد الزقازيق «الأرجوحة» ولعبة البلى وعسكر وحرامية وقت العصارى التى أبدع يوسف السباعى فى وصفها فى رائعته السقامات وأصبحت أثرا بعد عين فى زمن لعبة الكاندى كرش وأشباهها من ألعاب الكومبيوتر.. ورغم أن دراسة الألعاب الشعبية وأدواتها يُدخلها كثيرون فى نطاق دراسات الألعاب الرياضية إذ يرى على حسين قنديل الباحث فى علوم التربية البدنية أن الألعاب والمهارات الشعبية تراث رياضى له تاريخه القومى، فإنها أصبحت اليوم تمثل جانبا مهما فى دراسات الموروث الشعبى وعلم الاجتماع والنفس والتأريخ. فيعرفها الباحث احمد خليفة بأنها الالعاب التى أبدعها الشعب وحافظ عليها عن طريق تعلمها وتداولها من جيل الى جيل، ويحددها أحمد رشدى صالح بأنها كل لعبة يمارسها العامة منذ المهد الى اللحد ويتوارثونها جيلا بعد جيل ويغيرون منها او يحرفونها ويمارسونها منذ الطفولة. أما الباحث كمال الدين حسين فيصفها بأنها العاب بسيطة تلقائية فى أدائها وتنظيمها ولا تحتاج الى ملاعب او معدات وتتم ممارستها داخل الحجرات وفى الساحات وكل ما تتطلبه الرغبة فى اللعب وبعض المعدات البسيطة بالبيئة كجريد الشجر او قطعة خشب او ثمرة.. فى سياق التعريفات السابقة يمكن اعتبار الألعاب الشعبية كالعرائس و التحطيب والحجلة والمساكة ونط الحبل التى غالبا ما تتطابق أشكالها فى مختلف البلاد قاسما مشتركا يعكس الموروث الحضارى الإنسانى فيما تعكس تفاصيلها الخبرات المستمدة من البيئة المحلية. وفى دراستها للألعاب الشعبية تشير الباحثة إيمان مهران إلى أن هذه الألعاب تعكس كل أشكال الحياة فى مجتمعاتها والمفاهيم المرتبطة بالقيم وعلاقة الفرد بالآخر وبمجتمعه وبالطبيعة وبالموروث. من هذا المنظور تصبح الألعاب أشبه بمرآة للمواطن ولمجريات الأمور فى مجتمعه. وتضيف أن الألعاب الشعبية تتطلب أدوات حسب نوع اللعبة التى ترتبط بذاتها بفنون الأداء وبفن التشكيل اليدوى وبعناصر الأداء الحركى والإبداع الصوتى وبالتالى فهى تعد مدخلا للتعريف بملامح الموروث الشفاهى لدى المجتمعات. وفى سياق تعريف الثقافة الشعبية بأنها منتج يبدعه العامة ويستهلكونها ويدمجونه فى ثقافتهم اذا ما توافق مع متطلباتهم ورؤيتهم وأن بقاءه واختفاءه رهن بتوافقه مع ظروف معيشتهم، ترى الباحثة أن الالعاب الشعبية فنون ابتكارية تقوم على مشاركة تفرز فكرا او حركة او أداءً ، شروطه وقواعد ممارسته سهلة، لا تميز النوع أو الجنس أو السن ولا ترتبط بمكان أو تتطلب هيئة تنظيمية، الأمر الذى يضمن انتشارها وتحولها لمتنفس يسمح للفرد بالتعبير عن ذاته ويضمن المشاركة الجمعية. وتضيف الباحثة أن الالعاب إرث تقليدى يتسم بالمرونة ويحمل ملامح الابداع لأنه يعتمد على الاصالة والتجديد على حد سواء من خلال ارتباطه بمحيطه البيئي. ولقد ربطت دراسات الفنون الشعبية بين الألعاب التقليدية وبين الإرث الجمعى الأسطورى الذى وظف فيه الإنسان الرمز والحركة فى العصور القديمة للتعبير عن ذاته والتواصل مع الآخر ومع الطبيعة والذات الإلهية. فى هذا السياق تصبح الرموز والإشارات والأصوات التى تقترن بممارسة تلك الألعاب مدخلا لقراءة التاريخ وتسجيلا لأحداث ولدلالات ضمنية للمسكوت عنه فى اطار أكثر تبسيطا وتعبيرا، فتكتسب علامة التخميس المتبوعة بلفظ «كُبة» التى رددها كمال عبد الجواد ورفاقه وهم يتحلقون فى دائرة لعبة «الدبة وقعت فى البير» أمام معسكر الانجليز فى رواية «بين القصرين» ولعبة «عسكر وحرامية» التى استهوت السقا الصغير فى رواية السقا مات مغزى ودلالة أكبر. وهنا يصبح التساؤل مشروعا، فما هى الشفرات الثقافية التى تنقلها باربى وفلة وحرب الكواكب بعد أن أزاحت عروسة جدتى والسيجا وعسكر وحرامية؟! ز واحتلت مكانها .. وللحديث بقية لمزيد من مقالات سناء صليحة