محمد رجب النجار أحد فرسان الجيل الثاني من دارسي الأدب الشعبي. اهتم بدراسة المدون من موروثنا الشعبي، وقدم فيه عددا من الدراسات التأسيسية المهمة التي لا يستغني عنها متخصص. من ذلك دراساته عن «حكايات الشطار والعيارين»، و«جحا العربي»، و«التراث القصصي في الأدب العربي». كما أن دوره في تحقيق مخطوطات التراث الشعبي كبير، مثل تحقيقه كتاب «فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء»، و « علي الزيبق». و بدوره هذا في التحقيق فتح باباً تجنبه كثرة من الباحثين قبله، لصعوبته، وهو لم يكن يكتفِ بمجرد التحقيق ، بل اعتاد تقديم الكتاب المحقق، ومؤلفه، في دراسة مستفيضة لا تقل أهمية عن الكتاب المُحَقَق. ومن المجالات الشعبية المتعددة التى انشغل بها «النجار»، دراسة «فن السير الشعبية». وهى على قدر كبير من الأهمية؛ لريادتها أحيانا، وتحليلاته ومنهجيته أحيانا أخرى، وسعيه إلى استخدام مناهج حديثة فى دراسة هذا النوع الأدبي، الذى ظل حبيس مناهج محددة فى أحيان ثالثة. وإذا كان الفضل الأكاديمى يعود إلى الدكتور «عبد الحميد يونس» فى دراسة السير الشعبية، فإن فضل «النجار» - بجانب «أحمد شمس الدين الحجاجي»- ربما لا يقل أهمية عنه فى تطويع هذا الفن الشعبى للمناهج النقدية الحديثة. يتضح ذلك فى دراسته، التى سعى فيها لتطبيق المنهج البنيوي، والمعنونة ب «مدخل إلى التحليل البنيوى للسير الشعبية، نظريا وتطبيقيا»، التى صدرت أولا فى المجلة «قضايا وشهادات/ 1993»، وأُعيد نشرها فى مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة. وكانت هذه الدراسة من أوائل الدراسات الشعبية التى سعت إلى تطبيق «منهج بروب» فى السير الشعبية، إلى جانب دراسة «نبيلة إبراهيم» فى مجال الحكاية الشعبية التى طبقت فيها المنهج نفسه، على نحو ما يتضح فى دراستها «قصصنا الشعبي». وتتضح تجليات هذا المنهج فى تقسيمه لبنى السيرة إلى ثلاث، هى البنية الصغرى، والوسطى، والكبرى. وتعود بدايات «النجار» مع دراسة السير (أو الملاحم، بحسب المصطلح الذى كان يفضل استخدامه) الشعبية العربية إلى وقت مبكر، وتحديدا عام 1976، عندما قدم رسالته للدكتوراه فى هذا النوع الأدبي، وكان عنوان رسالته: «البطل فى الملاحم والسير الشعبية العربية، قضاياه وملامحه الفنية». وتوالت بعد ذلك دراساته للسير بشكل عام، أو لواحدة منها. وفى هذا الإطار تأتى دراسته المهمة: «الأدب الملحمى فى التراث الشعبى العربي»، الذى صدرت طبعتها المصرية، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2006. وفى سياق اهتمامه بواحدة من السير الشعبية، تأتى دراسته المطولة عن «الأدب الشعبى وحقوق الإنسان، تحرير المرأة العربية فى الخطاب الشعبى الملحمي: سيرة الأميرة ذات الهمة نموذجا/ 2003»، التى نُشرت ضمن أعمال «مؤتمر أدباء الأقاليم» بالمنيا فى دورته (18)، والصادرة عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة». كما تأتي- فى السياق نفسه- دراسته المهمة «أبو زيد الهلالي، الرمز والقضية: دراسة نقدية فى الأدب الشعبى العربي»، الصادرة عن دار القبس بالكويت. وهى تعتبر الدراسة العربية الثانية التى تتخصص فى شخصية البطل الشعبى أبى زيد الهلالي، بعد دراسة «محمد فهمى عبد اللطيف» عن «أبو زيد الهلالي/ 1947»، وإن كانت دراسة عبد اللطيف- رغم ريادتها- اتسمت بالأسلوب الصحفي. ويأتى كتاب «أبو زيد: الرمز والقضية»، فى 110 صفحات، ويتكون من مقدمة يعرض فيها ملاحظاته حول أدب الملاحم العربية، وأهمية دراستها، وما تمثله فى تراثنا العربي. ويضم الكتاب فصلين، خصص أولهما ل «الهلالية: الرمز والقضية». وتوقف فيه عند محاولة الإجابة عن سؤال أسباب بقاء السيرة الهلالية حيَّة حتى وقتنا الراهن، دون غيرها من السير الشعبية العربية الأخرى. ويُرجع أسباب ذلك إلى «طبيعة المعالجة الفنية» التى ميزت الهلالية عن غيرها، و«طبيعة الصراع الهلالى الذى كان صراعا داخليا»، ولم يكن خارجيا كما هى الحال فى كثير من سيرنا العربية. وأستطيع أن أضيف أسبابا أخرى إلى هذين السببين، مثل «موضوعية الهلالية» التى كشفت سلبيات العرب، وإيجابياتهم، بجانب «إظهار الهلالية لعادات العرب وتقاليدهم»، وكذلك «ارتباط رواية الهلالية بالغجر فى مصر»، واتخاذها مهنة احترفوها وتكسبوا من ورائها، إلى غير ذلك من الأسباب التى سبق أن فصلت الحديث عنها فى دراستى عن الهلالية. ويدور الفصل الثانى حول «أبو زيد وفن التشخيص الملحمي». وفيه يستعرض الملامح الفنية للبطل الملحمي، ويجملها فى تسع مراحل يمر بها البطل، هي: «مرحلة الميلاد، والنشأة، والإعداد للفروسية، والاعتراف الاجتماعى للبطل، والاعتراف القومي، والبطل الملحمى والقدر، والبطل الملحمى والقوى الغيبية، والبطل وأبعاد التشخيص الفني، وأخيرا موت البطل». ولعل أهم ما يلفت نظرنا ويستوقفنا فى هذا الكتاب- إلى جانب أهميته- أمران، أولهما: تفضيل النجار لمصطلح «ملحمة» عن «سيرة»، وما دفعه إلى ذلك غيرته العربية التى أرادت - متابعا فى ذلك «عبد الحميد يونس» - أن تدافع عن العقلية العربية فى وجه من اتهموها بالقصور والعجز، سواء من المستشرقين أمثال الفرنسى «إرنست رينان» أو من تابعهم من العرب، مثل: «أحمد أمين»، و«محمد غنيمى هلال». ثانيهما: ميله إلى أن عدد حلقات السيرة الهلالية أربعة، وليس ثلاثة، معتبرا «سيرة الزير سالم » بمثابة الحلقة الأولى منها. وهو يميل لذلك لأسباب، منها أن الرُواة كانوا يستخدمون مصطلح «قصة الزير سالم»، وليس «سيرة». ولعل هذا الكتاب المهم، الذى يغفله كثير من المتخصصين، وهاتان القضيتان الأخيرتان، جميعها تحتاج منَّا وقفة متأنية ومتخصصة. ولعل كل هذا- وغيره بالطبع الكثير- يضيء لنا بعضا من الدور المهم الذى بذله الدكتور «محمد رجب النجار» فى الدرس الثقافى الشعبى العربي.