أينما حل الإرهاب والفكر المتطرف ظهرت الفتنة والمؤامرات والإقصاء لكل مخالف لهذا الفكر، دون مراعاة لحدود أو خرائط جغرافية أو انتماء وطنى أو قيم أخلاقية،وكان أحد أوجه تلك المؤامرات ما تعرض له الدور المصرى وقوتها الناعمة فى النمسا وبعض الدول الأوروبية، حيث اعتمد التنظيم الدولى لجماعة الإخوان الإرهابية فى تحركاته على تمويلات ضخمة وتحركات لأعضاء «منظمة الشباب المسلم» والتى تعد أحد أذرع الجماعة فى النمسا للسيطرة على المدارس والمراكز والمساجد الإسلامية، وشغل دعاة الفكر المتطرف الفراغ الذى كان يملؤه رجال الأزهر منذ الستينات وحتى عام 2002. المخططات والتحركات بدأت مبكراً، والإرهاصات كانت أبكر بكثير، وجميعها اتفقت على تقزيم الدور المصرى بين أبناء الجاليات الإسلامية فى النمسا، التى بنى بها أكبر مركز إسلامى فى أوروبا على ارض مصرية اشتراها حسن التهامى فى الستينات وقت أن كان سفيرنا بالنمسا، وكان البديل المتطرف جاهزا لاحتلال تلك المساحة والنيل من قوة مصر الناعمة. هذا ما يؤكده لنا الدكتور حسن إسماعيل موسى رئيس المكتب التنفيذى للمصريين بالخارج، ورئيس المجلس الإسلامى النمساوى، والمنتدى الدولى للحقوق والحريات، فى حوار خاص مع «الأهرام»، يحكى فيه عن تجربته فى تأسيس المعهد الأزهرى وأكاديمية المعلمين الإسلامية بفيينا خلال الفترة من 1997 وحتى عام 2002 إلى أن تعرضت لمؤامرة من التنظيم الدولى للإخوان وسيطرتهم عليها حتى تجميد نشاطها. وبعد تدشين قانون جديد فى النمسا ينظم إنشاء الكيانات والجمعيات والمدارس الإسلامية، بادرت الجالية المصرية والاتحاد العام للمصريين فى الخارج بإعادة تشكيل مجلس إسلامى جديد، والسعى نحو تأسيس أكاديمية مصرية للعلوم الإسلامية تخرج الأئمة والدعاة للمراكز الإسلامية فى الدول الأوروبية بعد سنوات من سيطرة الفكر الإرهابى الذى خرج آلاف الدواعش وبعث بهم من أوروبا إلى القتال والفتنة فى الدول العربية. وجاءت زيارة الدكتور حسن موسى ولقاؤه مع الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف وعدد من القيادات الدينية، الأسبوع الماضي، فى إطار تلك المحاولات لاستعادة إحدى أهم أدوات القوة الناعمة لمصر فى أوروبا. ويحكى الدكتور حسن موسى أبعاد تلك المؤامرة الإخوانية الدولية على الدور الدعوى المصرى فى النمسا، قائلا : إن النمسا هى الدولة الأوروبية الوحيدة والأولى التى تعترف بالإسلام كديانة تعبدية مقارنة بدول أوروبية أخرى تعترف به كثقافة، وهذا الاعتراف حدث عام 1912 حيث كانت توجد أكثرية إسلامية بالجيش النمساوى تعود أصولها إلى البوسنة، ورئيس الوزراء الأسبق فايمر الذى حكم عام 72 إلى 1985 فى إطار تقاربه مع العرب والمسلمين أعاد تفعيل قانون الاعتراف بالإسلام، وفى عام 1979 تشكلت الهيئة الإسلامية الدينية الرسمية وكان على رأسها رجل قانون شهير من أصل أفغانى هو الدكتور عبد الرحيم زاي. ويبلغ عدد المسلمين حوالى 500 ألف نسمة أى ما يشكل 6% من عدد السكان. ويعتبر الإسلام ثانى أكبر مجموعة دينية بعد المجموعة المسيحية البروتستانتية. وبعد اعتراف النمسا بالإسلام كدين بالبلاد تأسست الجالية الإسلامية كهيئة إسلامية، ويوجد حوالى 87 مسجداً منها 27 فى العاصمة فيينا. وكان للمصريين دور بارز فى هذه الهيئة منذ التأسيس حيث كان الدكتور محمود عزت جويد – أطال الله فى عمره ممثل ممصر فى الهيئة عن محافظ جراتس، ووفقا للقوانين المعمول بها فى النمسا يحق لأتباع الديانات وفقا للاتفاقية التى صاغتها حكومة النمسا تحت مسمى « الكونكوردات» لأتباع الديانة الإسلامية إلى جانب ممارسة شعائرهم وحرية العقيدة أن يقوموا بنشر وتسهيل التعليم الدينى لأتباع الدين الإسلامي، من خلال السماح به وعدم التدخل فى شئونه والمساعدة فى توفير هيئة التدريس وطباعة الكتاب المدرسي، وهناك المئات من المؤسسات ودور الرعاية للأطفال الكاثوليك والبروتستانت واليهود، وفى هذا السياق جئنا نحن المسلمين وان كنا متأخرين عام 1997 وكنت واحدا من المؤسسين للتعليم الإسلامي، وكان دافعى فى ذلك أننى كنت اعمل بالمحاماة ولم أجد مدرسة إسلامية فى النمسا لإلحاق أبنائى بها، ولم أجد سوى بعض المدارس التابعة للسفارة السعودية وأخرى تابعة للسفارة الليبية وتدرس المناهج باللغة العربية ولم تكن تدرس باللغة الألمانية لغة أهل البلاد، وبحكم القانون كان يدرس مادة الدين الإسلامى فى المدارس النمساوية بواقع حصتين أسبوعيا من مدرسين من داخل النمسا عن طريق المسابقة أو مبعوثين من الدولة التركية التى ترسل مبعوثين لها بحكم أن غالبية المسلمين هناك من الأتراك وكانوا غير مؤهلين . وبالتشاور بين أعضاء الهيئة الإسلامية النمساوية كانت فكرة ضرورة إعداد مدرس للدين الإسلامى وتخريجه فى إطار جامعي، وفى إطار عملى بالمحاماة وجدت أن القوانين تمنحنا هذا الحق فى تأسيس مدارس إسلامية وتربوية على غرار المدارس الكاثوليكية والإنجيلية وحتى اليهودية فبادرت بتأسيس أكاديمية المعلمين الإسلامية بالتعاون مع جامعة الأزهر والتى كان رئيسها حينذاك الدكتور أحمد عمر هاشم وبموافقة الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر السابق – رحمه الله – وكانت له أياد بيضاء حيث أعدت جامعة الأزهر المناهج بالتعاون مع كلية التربية وبإشراف من الدكتور جعفر عبد السلام نائب رئيس جامعة الأزهر فى ذلك الوقت والذى وفر لنا الكتب والمناهج وهيئة التدريس، ووقع الدكتور أحمد عمر هاشم بصفته رئيس جامعة الأزهر اتفاقية تعاون مع الأكاديمية والهيئة الدينية الإسلامية فى النمسا، وكانت جامعة الأزهر تزودنا بالأساتذة الزائرين لمدة شهر أو شهرين حيث تتحمل الجامعة رواتبهم ونحن نوفر لهم الإقامة فى النمسا حيث كنا ندرس المواد الشرعية باللغة العربية. وكانت تلك الاتفاقية والتعاون مع جامعة الأزهر وتدريس العلوم الشرعية باللغة العربية يتيح لنا استضافة كبار علماء الدين الإسلامى من الأزهر لإلقاء المحاضرات باللغة العربية وكنا نمنح الطالب الأعجمى الذى يدرس لمدة عامين دبلومة وحازت الأكاديمية على إعجاب شديد وبدأت الدراسة فيها فى سبتمبر عام 1998 وشرفت بعمادتها حتى عام 2002 وكان يدرس بها 200 طالب للتخرج ليصبحوا مدرسين لمادة الدين الإسلامى فى المدارس النمساوية وأسهمت فى سد العجز فى المدرسين المؤهلين للتدريس فى المدارس النمساوية الحكومية، أيضا ساهمت الأكاديمية فى تأهيل وتخريج الأئمة والدعاة للمساجد فى النمسا. مؤامرة إخوانية { ولماذا توقف هذا الدور؟ {{ للأسف الشديد فى عام 2002 تم اختطاف الأكاديمية بعد سيطرة عناصر جماعة الإخوان فى النمسا عليها حيث تنشط فى النمسا جماعة الإخوان والتنظيم الدولى وحزب التحرير الإسلامى بعد استقطاب عدد كبير من الدارسين والأئمة وإغداق الأموال عليهم وساهم فى تلك المؤامرة عناصر منتمية للإخوان من المصريين والسوريين والعراقيين المقيمين بالنمسا، وتمكنت «منظمة الشباب المسلم» بالنمسا وهى إحدى أذرع جماعة الإخوان فى النمسا من السيطرة على الأكاديمية فهم رغم تعدد جنسياتهم تربطهم وحدة الفكر والمنهج. وللأسف لم يتم الحفاظ على هذا الكيان الإسلامى وأصبحت الأكاديمية الآن جزءا من قسم فى الجامعة الكاثوليكية للتربية. وكان يمكن أن تتحول وفقا لقانون النمسا إلى جامعة للعلوم الإسلامية ولكن تم إهدار هذه الفرصة وأصبحت قسما لتخريج طلاب مادة الدين الإسلامى للمدارس الإلزامية فقط، وتم إلغاء تخريج الأئمة. والتفكير الآن لإنشاء كيان جامعى خاص لإعداد الأئمة والدعاة وفى هذا الإطار نتطلع إلى التعاون مع وزارة الأوقاف والأزهر جامعا وجامعة ودار الإفتاء ورابطة الجامعات الإسلامية وذلك لوصل ما انقطع وإعادة إحياء هذا المشروع الفكرى الإسلامى لخدمة الإسلام والمسلمين فى أوروبا وإنشاء مركز إشعاع أكاديمى فكرى ينشر صحيح الإسلام ويظهر وسطيته واعتداله لتصحيح الصورة الخاطئة التى شوهها الإرهاب. { وكيف كان اللقاء مع وزير الأوقاف وما أوجه التعاون بين الأوقاف المصرية والمركز الإسلامى بالنمسا؟ {{ كان اللقاء ايجابيا جدا وقرر الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف، تعزيز أوجه التعاون بين الوزارة والمجلس الإسلامى النمساوي، وذلك بإمداد الجالية الإسلامية بمطبوعات الوزارة من كتب تصحيح المفاهيم وفقه العبادات المترجمة إلى اللغة الألمانية، وتدريب أئمة المراكز الإسلامية بالنمسا بأكاديمية الأوقاف لتدريب الأئمة وإعداد المدربين، وتزويد المجلس الإسلامى النمساوى بمطبوعات الوزارة لنشر الفكر الوسطى المعتدل وتصحيح المفاهيم الخاطئة التى ألصقت زورا وبهتانا بالإسلام، بسبب الممارسات الإرهابية الخاطئة والتى كانت سببا لتزايد «الاسلاموفوبيا» فى كثير من الدول الغربية. كما ناقشنا سبل تأسيس أكاديمية مصرية إسلامية بالنمسا لتخريج الأمة والدعاة، وعودة العمل بالمعاهد الأزهرية الدولية التى كانت بفيينا وتعمل وفق الترخيص الممنوح من قبل فضيلة الإمام الأكبر الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر - رحمه الله - واللائحة الداخلية للمعاهد الأزهرية فى فيينا، والمناهج كانت جميعها أزهرية، ولكن تم إلغاء الاعتراف الأزهرى بهذه المعاهد بعد رحيل الشيخ سيد طنطاوي، بعد قرار الأزهر بإلغاء المعاهد الخارجية، ونسعى حاليا إلى عودة هذا الدور الريادى لمصر مرة أخرى. { وما دور وزارة الأوقاف المصرية فى هذا الشأن؟ {{ درسنا عن قرب تجربة وزارة الأوقاف المصرية فى تأسيس الجامعة المصرية الإسلامية فى كازاخستان والتى يوجد بها الآن 4 كليات ويدرس بها نحو 4 آلاف طالب ينشرون صحيح الإسلام فى وسط آسيا، وندرس الآن بالتنسيق بين وزارة الأوقاف والخارجية المصرية والجهات المعنية فى النمسا إنشاء «الجامعة المصرية للثقافة الإسلامية بالنمسا» لتخريج الأئمة والدعاة فى أوروبا، وقد وجدنا من وزير الأوقاف تفهما كاملا. كذلك تم الاتفاق مع وزير الأوقاف على تدريب الأئمة النمساويين فى أكاديمية الأوقاف بمسجد النور بالعباسية، وإمدادنا ب 5 أئمة من حملة الماجستير والدكتوراه ممن يجيدون التحدث باللغة الألمانية حتى يكونوا باكورة للمجلس الإسلامي، وكذلك قراء القرآن فى رمضان، وسوف يكون تأسيس هذه الجامعة نواة لإمداد المراكز الإسلامية فى جميع الدول الأوروبية بخريجى الأكاديمية وبالدعاة والأئمة المصريين، ونستهدف أن تكون النمسا أولا ثم لندن وباريس وبون. وذلك لأن مجال عملنا بحكم قوانين الاتحاد لأوروبى سيشمل رعاية المسلمين المصريين فى باقى الدول الأوروبية فهذا المجلس الذى تم الاعتراف به فى النمسا يحق له العمل فى باقى الدول الأوروبية ونحن ندرس الآن وبجدية افتتاح أفرع له فى بروكسل بصفتها عاصمة ومقر الاتحاد الأوروبي، ثم فى مرحلة لاحقة سننتقل إلى لندن وباريس وبون فهى الأعلى وجودا من المصريين. كما أن تبرع وزير الأوقاف بفرش 20 مسجدا وامدادها بالمكتبات الإسلامية والمصاحف يحقق الوجود المصرى ويستعيد مكانة مصر ويمثل وجودا حقيقيا على الأرض فى مواجهة هذه التدخلات حيث كانت مصر تقوم بمثل هذا الدور فى الخمسينات والستينات ضمن دوائر اهتمامنا الثلاث العربية والإفريقية والإسلامية وكان لمسلمى أوروبا النصيب الأكبر حيث كان المسجد الإسلامى الكبير فى لندن والذى بنى على ارض مصرية تبادلتها حكومة الملك فاروق مع الحكومة البريطانية والمركز الإسلامى فى فيينا أيضا بنى على ارض مصرية اشترتها الخارجية المصرية فى الستينات حيث اشتراها سفير مصر فى النمسا فى ذلك الوقت حسن التهامى ووضع حجر الأساس لهذا المركز ولكن بعد حرب 67 وفى ظل ظروف مصر الاقتصادية تراجع الدعم المادى للمسلمين فى أوروبا وتركنا الساحة لدول أخرى وجماعات متشددة نشرت الفكر المتشدد فى أوروبا. وهناك مؤسسات ومراكز إسلامية أوروبية تحولت إلى أبواق للدواعش ويجب علينا الآن أن نتعاون جميعا لمواجهة هذا الفكر بالفكر ووزير الأوقاف قال إن مصر بمؤسساتها العلمية والثقافية تضع جميع الإمكانيات لخدمة الدعوة الإسلامية الصحيحة داخل مصر وخارجها. { وما الخطوات العملية التى تم بحثها لاستعادة هذا الدور على أرض الواقع؟ {{ تم الاتفاق مع وزير الأوقاف على إقامة صرح أكاديمى إسلامى فى فيينا تسهم فى بنائه مصر على غرار تجربة الجامعة المصرية الاسلامية فى كازاخستان، تحت مسمى «الجامعة المصرية النمساوية للعلوم الإسلامية» ويديرها مجلس أمناء مشترك بين وزارة الأوقاف والمجلس الدينى الإسلامى النمساوى وبرئاسة وزير الأوقاف المصري، وتكون الدراسة بها باللغتين العربية والألمانية وتكون صمام أمان فكرى لمواجهة الانفلات الفكرى والأكاديمى الحادث فى أوروبا على الساحة الإسلامية ومرجعية فكرية إسلامية للمسلمين فى أوروبا وسيكون للأكاديمية أفرع فى لندنوبروكسل وباريس. وسيتم التنسيق مع وزارة الخارجية والأوقاف والجهات المعنية بالدولة للنظر فى إنشاء الجامعة بمجلس أمناء مشترك بين الأوقاف والمجلس النمساوى . وسيتم توجيه دعوة لوزير الأوقاف لزيارة النمسا لافتتاح المساجد التى ستقوم الأوقاف بفرشها بالسجاد وتجهيزها بالمكتبات العلمية من منشورات الوزارة وبخاصة المترجمة فى مجال تصحيح المفاهيم الخاطئة حتى يتمكن الوزير والوفد المرافق له من دراسة وتعميق الأمور تمهيدا لانطلاقة أوسع فى التعاون بين الأوقاف والمجلس الإسلامى النمساوى والسفارة المصرية بفيينا وسيتم فرشها خلال زيارة منتظرة لوزير الأوقاف المصرى فى أبريل القادم، ونأمل فى إنقاذ تلك المساجد.