جامعة القاهرة تكمل استعداداتها لبدء ماراثون امتحانات نهاية العام الجامعي لنحو 270 ألف طالب    رئيس النواب يفتتح أعمال الجلسة العامة    رفع اسم محمد أبو تريكة من قوائم الإرهاب    مفاجأة في سعر الدولار رسميا الآن في البنوك    أسعار المكرونة اليوم الأحد 19-5-2024 في أسواق ومحال في محافظة المنيا    صعود سعر الفراخ البيضاء الآن.. أسعار الدواجن اليوم الأحد 19-5-2024 للمستهلك (تحديث)    وزير التعليم العالي يلتقي بوفد جامعة إكستر البريطانية لبحث وتعزيز التعاون المُشترك    «جولدمان ساكس» يتوقع خفض المركزي المصري أسعار الفائدة 150 نقطة أساس    الأحد 19 مايو 2024.. نشرة أسعار الحديد والأسمنت اليوم    الديوان الملكي السعودي: خادم الحرمين الشريفين يجري فحوصات طبية في قصر السلام    شرطة الاحتلال الإسرائيلية تعتقل عددا من المتظاهرين المطالبين بعزل نتنياهو    الأمور تشتعل.. التفاصيل الكاملة للخلافات داخل مجلس الحرب الإسرائيلي    إعلام روسي: هجوم أوكراني ب6 طائرات مسيرة على مصفاة للنفط في سلافيانسك في إقليم كراسنودار    مفاجأة في تشكيل الزمالك المتوقع ضد نهضة بركان بإياب نهائي الكونفدرالية    وصول بعثة الأهلي إلى مطار القاهرة بعد مواجهة الترجي    بحضور وزير الشباب والرياضة.. تتويج نوران جوهر ودييجو الياس بلقب بطولة CIB العالم للإسكواش برعاية بالم هيلز    بالأسماء.. التصريح بدفن ضحايا حادث تصادم الدائري بالقليوبية    موعد عيد الأضحى 2024 وجدول الإجازات الرسمية في مصر    حملات على حائزي المخدرات تضبط 40 قضية في الشرقية وجنوب سيناء    اختل توازنها.. مصرع طفلة سقطت من الطابق الثالث بأوسيم    النيابة تحيل عصابة سرقة إطارات السيارات في الحي الراقي للمحاكمة    لهذا السبب.. صابرين تتصدر تريند "جوجل" بالسعودية    أخبار جيدة ل«الثور».. تعرف على حظك وبرجك اليوم 19 مايو 2024    بيت الأمة.. متحف يوثق كفاح وتضحيات المصريين من أجل استقلال وتحرير بلادهم    منها «تناول الفلفل الحار والبطيخ».. نصائح لمواجهة ارتفاع درجات الحرارة    كشف تفاصيل صادمة في جريمة "طفل شبرا الخيمة": تورطه في تكليف سيدة بقتل ابنها وتنفيذ جرائم أخرى    كوريا الجنوبية تستضيف وفدا أمريكيا لبحث تقاسم تكاليف نشر القوات الأمريكية    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الأحد    مسيرات حاشدة في باريس لإحياء ذكرى النكبة والمطالبة بوقف فوري لإطلاق النار في غزة    القناة الدولية الأهم التى تحمل القضية المصرية والعربية: أحمد الطاهرى: «القاهرة الإخبارية» صاحبة الرؤية الموضوعية فى ظل ما أفسده الإعلام العالمى    إقبال الأطفال على النشاط الصيفي بمساجد الإسكندرية لحفظ القرآن (صور)    «البحوث الإسلامية» يوضح أعمال المتمتع بالعمرة إلى الحج.. «لبيك اللهم لبيك»    حديث أفضل الأعمال الصلاة على وقتها.. الإفتاء توضح المعنى المقصود منه    الدفع بمعدات لإزالة آثار حريق اندلع في 10 أكشاك بشبرا الخيمة    «الصحة» توجه عدة نصائح مهمة للمواطنين بشأن الموجة الحارة    دراسة طبية تكشف عن وجود مجموعة فرعية جديدة من متحورات كورونا    حقيقة فيديو حركات إستعراضية بموكب زفاف بطريق إسماعيلية الصحراوى    برنامج واحد من الناس يواجه أحمد ماهر بابنه لأول مرة على قناة الحياة غداً الإثنين    إصابات مباشرة.. حزب الله ينشر تفاصيل عملياته ضد القوات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية    ظاهرة عالمية فنية اسمها ..عادل إمام    خبير اقتصادي: صفقة رأس الحكمة غيرت مسار الاقتصاد المصري    الخارجية الروسية: مستقبل العالم بأسرة تحدده زيارة بوتين للصين    الحكم الشرعي لتوريث شقق الإيجار القديم.. دار الإفتاء حسمت الأمر    بن حمودة: أشجع الأهلي دائما إلا ضد الترجي.. والشحات الأفضل في النادي    "التنظيم والإدارة" يكشف عدد المتقدمين لمسابقة وظائف معلم مساعد مادة    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    باسم سمرة يكشف عن صور من كواليس شخصيته في فيلم «اللعب مع العيال»    محمد يوسف: محمد صلاح عالمي وينبغي أن يعامله حسام حسن بشكل خاص    تعزيزات عسكرية مصرية تزامنا مع اجتياح الاحتلال لمدينة رفح    رضا حجازي: التعليم قضية أمن قومي وخط الدفاع الأول عن الوطن    "التصنيع الدوائي" تكشف سبب أزمة اختفاء الأدوية في مصر    عماد النحاس: كولر أدار المباراة بشكل متميز.. وغربال كان متوترًا    وظائف خالية ب وزارة المالية (المستندات والشروط)    اليوم السابع يحتفى بفيلم رفعت عينى للسما وصناعه المشارك فى مهرجان كان    مدافع الترجي: حظوظنا قائمة في التتويج بدوري أبطال أفريقيا أمام الأهلي    نقيب الصحفيين: قرار الأوقاف بمنع تصوير الجنازات يعتدي على الدستور والقانون    بذور للأكل للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



احمد بهاء الدين
حالة فريدة فى الكتابةالراقية
نشر في الأهرام اليومي يوم 28 - 01 - 2016

في شقة إيجار صغيرة من حجرة واحدة وصالة ومطبخ بالدور الأخير في إحدي العمارات, تزوج أحمد بهاء الدين وكان في ذلك الوقت رئيسا لتحرير أخبار اليوم.
وعندما اقترب مولد ابنته استأجر شقة أكبر مكونة من أربع حجرات, لكنه نقل إليها أثاث الشقة الصغيرة أي أنه فرش حجرة وصالة فقط, وأغلق باقي حجرات الشقة, وقرر أن يفرشها علي مهل خلال سنوات طويلة.
ولم يغير أحمد بهاء الدين هذه الشقة. كما لم يغير مبادئه أيضا, رغم أنه تولي أعلي المناصب في الصحافة المصرية فكان رئيسا لتحرير الأهرام والأخبار ونقيبا للصحفيين أيضا. فأي عظيم وأي نبيل هذا الرجل؟!.
كان أحمد بهاء الدين نسيجا وحده في الصحافة والسياسة, وعنوانا علي الكتابة الراقية. لم يتغير تبعا لتغير الحكام, كتابته تشبه النهر صافية, عذبة, وتعرف طريقها جيدا إلي عقل الحاكم وقلب القاريء.
يقول إنه يذهب في كتاباته إلي آخر حدود الأسلاك الشائكة ويتجنب الاصطدام بالألغام, ولذلك لم يكن من الصحفيين الذين عرفوا السجون ولكنه عرف النقل والفصل.
كان كتابه الأول الاستعمار الأمريكي أول من دق ناقوس الخطر لما ينتظرنا علي أيدي الأمبراطورية الأمريكية التي تغزو الأوطان بالمال بدلا من السلاح, فيقوم الاستثمار الأمريكي باحتلال الدول بالمعونات بدلا من الجيوش, إنها نفس اللعبة التي تؤرقنا حتي اليوم طرحها بهاء وعمره22 سنة فقط.
ولد بهاء عام1927 بالاسكندرية وتخرج في كلية الحقوق عام1946 وقبل أن يبدأ الكتابة كان قارئا نهما, تشرب حب الوطن من قراءة محاضر المحاكمات السياسية مما أضاف إليه عمرا جديدا كما يقول صلاح عيسي جعل مقالاته الأولي تتسم بالرصانة والنضج, وأشاع لمن لا يعرفونه أنه كهل, عركته الأيام, تعلم الحكمة والاتزان من الزمن الذي لم يكن عاش منه سوي أقل من ربع قرن. وجاء كتابه أيام لها تاريخ قصيدة حب مصرية لتاريخ وثوار مصر مثل عبد الله النديم الصعلوك الذي أصبح خطيبا للثورة العرابية, وعندما هزم الثورة وحدث الاحتلال البريطاني لمصر, كان النديم الوحيد الذي استطاع الهروب والتخفي عن عيون الإنجليز: انفرد النديم دون رجال الثورة بمصير لم يشاركه فيه أحد علي الاطلاق, فهو الذي تعود الصعلكة ثم الحركة الخاطفة, لا يمكن أن يطيق السجن وهو أيضا لا يتصور النفي, إنه قطعة من طين هذا البلد جذوره عميقة في أرضه, إنه لا يستطيع العيش في المنفي وعلي ذلك قرر أن يختفي.. وأن يواجه أعجب فترة في تاريخ حياته العجيبة: تسع سنوات من حياة الاختفاء والمغامرات خلفه رجال الحكومة ينقبون, وجائزة ألف جنيه لمن يأتي به حيا أو ميتا!
كما سلط الكتاب الضوء علي كفاح محمد فريد والصراع بين سعد زغلول وعدلي يكن وكذلك أزمة كتاب الاسلام وأصول الحكم, وتحدث عن امبراطورية زفتي تلك القرية التي استقلت عن مصر بعد اعتقال سعد زغلول في ثورة.1919
بهاء وثورة يوليو
الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية لعل هذه الكلمات كانت أهم محاور كاتبنا النبيل أحمد بهاء الدين ولذلك عندما قامت ثورة يوليو1952 جاء كتابه فاروق ملكا كاشفا لحجم الفساد والاستبداد الذي عاشت فيه مصر, كان فاروق يحب الرشوة وخاصة علي مائدة القمار وحدث أثناء حرب فلسطين أن اعتقلت الحكومة عددا كبيرا من أثرياء اليهود, فكان يذهب مندوب منهم إلي نادي السيارات ويلاعب الملك ويخسر عشرة آلاف أو عشرين ألفا.. وفي نهاية السهرة يلتمس الافراج عن الخواجة فلان فيصدر بذلك النطق السامي!.
وقال إن فاروق جمع كل مساوئ حكام أسرة محمد علي حارب نشر التعليم كعباس, ومنح الامتيازات لندمائه كسعيد, ولجأ إلي التخلص من خصومه السياسيين كما فعل إسماعيل, وكان وكيلا للانجليز في مصر كسلفه توفيق لكن الفرق بينه وبينهم يقول بهاء: إنه ارتكب هذه الموبقات في القرن العشرين وفي شعب تطور كثيرا, وقطع في طريق الوعي شوطا طويلا.
لم يتخذ بهاء من الكتاب وسيلة للتقرب لثوار يوليو الحكام الجدد. لأنه كان يكتب دائما وعينه علي الوطن وليس الحكام.
لقد آمن بالثورة ودافع عنها لكنه أيضا انتقدها, انتقد الاستبداد, وتجاوزات بعض رجال الحكم. وكان من الطبيعي أن يتعرض للاعتقال ولكن عبد الناصر أنقذه وقال لهم اتركوا بهاء هو مخه كده, رغم أنه لم يحدث أن التقي به علي الاطلاق. وجملة عبد الناصر كاشفة لشخصية بهاء التي لا تتحرك لأي مصالح شخصية ولكنه يكتب ما يؤمن به دون النظر لمن يغضب ومن يرضي, يكتب بعد قراءة واسعة وتفكير عميق, وتكون كتابته طوق النجاة لمن يبحث عن الأمل أو يريد حلا لأزمة طالما حيرت صاحب القرار.
بهاء والدساس
دخل بهاء الصحافة كاتبا للمقال في مجلة فصول, كما كان يرسل بعض مقالاته لمجلة روزاليوسف, أعجبت بها صاحبة الدار السيدة فاطمة اليوسف والدة احسان عبد القدوس. فسألت عن صاحب هذه المقالات وطلبت حضوره. وفي موعد تسليم مقاله أمسك به رجال الأمن وأخذوه للسيدة فاطمة اليوسف لتبدأ من هنا رحلة كاتب وصحفي عظيم اسمه أحمد بهاء الدين بعد سنوات قليلة عملت له مجلة صباح الخير وأصبح رئيسا لتحريرها عام1956 وبعد سنوات من التوهج طلبه مصطفي أمين ليكون رئيسا لتحرير الأخبار عام1959, ثم نقله الرئيس عبد الناصر إلي دار الهلال في واقعة لم يعرف لها بهاء أي تفسير. وعندما تولي السادات الحكم أصدر قرارا بنقله من الهلال إلي روزاليوسف, وغضب بهاء غضبا شديدا وكتب للسادات رسالة عنيفة قائلا: لقد اخترعت الثورة صحفيين وكتابا ودكاترة في كل مجال ولكني لست أحد اختراعات الثورة فمن حقي أن يؤخذ رأيي في أي أمر يتصل بي شخصيا فلا أقرأه في الصحف دون سابق علم ولا أتحرك كقطعة شطرنج من مكان إلي مكان بلا رغبة.
كان ما يتعرض له بهاء من غضب السلطة يحيره ولا يجد له أبدا تفسيرا سوي الدساسين الدساس حين يدس عليك, لا ينتقدك ببساطة, انه أولا يحب أن يفهم المدسوس لديه, انه صديقك. وينطلق الدساس من نقطة مدحك وصداقته لك. ولكن! وبعد كلمة لكن تسقط الكلمة الصغيرة كما تسقط قطرة الماء, لا يحس بها أحد. وقطرة.. ثم قطرة.. ثم حكاية.. ثم نكتة حتي تتكامل لك لدي المدسوس لديه صورة لا علاقة لها بك علي الاطلاق, ولا يشعر المدسوس لديه, بتسرب هذه الصورة وتكاملها في ذهنه عن فلان وعلان. وغاية الدساس هنا أن ينفرد بأذن الحاكم, أو يبعد عنه منافسا, أو يفسح الطريق لآخر.. وهكذا..
هل فهمت شيئا؟ لا أظن! بسبب إنني أرسم صورة شائعة في حياتنا كما إنني لم أحسن رسم هذه الصورة. وكان كتابه وتحطمت الأسطورة عند الظهر بعد نصر أكتوبر هو الذي فتح الطريق لعودة العلاقات مرة أخري مع السادات, وإن كان بهاء في كل ما يكتب لم يكن ينظر لرضا الحاكم, كان فقط يكتب ما يريد, فمرة يصادف الرضا ومرة يصادف الغضب وهو في كلتا الحالتين لا يتغير ولا يتوقف كثيرا أمام الرضا أو الغضب من الرئيس.
يقول: خلال ثماني سنوات فإن الرئيس السادات صادقني مرارا, ونقلني من مكاني كعقاب مرة, وفصلني من العمل الصحفي مرة وأوقفني عن الكتابة مرتين, وكان الصعود والهبوط المتوالي مصدر حيرة للكثير من الصحفيين والسياسيين.
جاء كتاب محاوراتي مع السادات كاشفا للتخريب والفساد الذي حدث أيام السادات. وإذا كان كتاب هيكل خريف الغضب هو نفثة غضب بحق فإن كتاب بهاء نفثة عقل أكثر تشريحا لسياسات السادات التي قامت علي الفهلوة: إن الأوضاع التي كشف عنها الانفتاح كانت هي بداية الشرخ الحقيقي بين السادات وبيني شرخ أخذ في الاتساع بعد سنوات كتبت فيها مرارا ضد السداح مداح تحت عناوين التنمية والبناء والاعتماد علي النفس وعدم تكرار مأساة التبعية الاقتصادية لكنني كنت نغمة نشازا كنت أقول للسادات ان أسلوب المساعدات الأجنبية نحونا ليس هو الأسلوب البريء المطلوب. انهم يا ريس لا يريدون لمصر أن تغرق وهم أيضا لا يريدون لها أن تقف علي قدميها! فهم يريدونها طافية علي سطح الماء فقط لا هي غارقة ولا هي تتنفس بحرية.
عصر من الصراعات
عاش أحمد بهاء الدين في قلب الصراعات العاتية في الصحافة والسياسة, ولكنه خرج سالما يلقي الاحترام من كل المتصارعين, لأنه لم يكن مشغولا بالمناصب, ولا صراع المناكب ولا حتي بالجلوس علي كرسي الحكم. كان مشغولا بالوطن والتفكير وكتابة حرة تعمل علي تقدمه وازدهاره.. ففي كتابه هذه الدنيا الذي كان مقالات بأخبار اليوم تحت هذا العنوان, يقول: الناس يقرأون ويشاهدون الأفلام من لندن وباريس فيظنون أن لندن ليست سوي حدائق هايد بارك حيث يباع الهوي.. وباريس ليست إلا مونمارتر حيث يسهر الفنانون بلا عمل حتي الصباح! ولكن هذه ليست انجلترا وفرنسا إن أهم ما في هذه البلاد هو الجهد العنيف وهو المناطق الصناعية الهائلة. هو قاعات العلم ومعامل البحث وأفران الحديد المنصهر؟ والذين تراهم في الشوارع والحدائق والمسارح يلهون ويمرحون هم أنفسهم الذين تراهم في المعامل والمصانع والمدرجات يبحثون ويعملون ويتصببون عرقا. إن ازدهار اللهو جاء نتيجة لازدهار العمل!.
لقد وجد نفسه في قلب الصراع بين الأستاذين الكبيرين مصطفي أمين ومحمد حسنين هيكل, وحاول كعادته أن يشرح لنا الصراع فكشف لنا عن أزمة الصحافة التي تحولت من نقد مساويء وعيوب الحاكم إلي مدحه والتودد إليه. يقول: حدد الصراع بين مصطفي أمين وهيكل الاطار العام لنجاح الصحفي, فأصبح مستقبل الصحفي لا يتحدد باجتهاده وإنما بعلاقاته بالجهات ذات السلطة, مثل الرئاسة ووزارة الاعلام وأجهزة المخابرات والمباحث العامة والأمن! وأصبحت هناك مدرسة في السياسة والصحافة لا تجد في ارتداء الأقنعة وخلعها تبعا للعهود ووفقا للمصالح أي عيب! كما لم يغفر أولاد أمين لتلميذهما هيكل استئثاره بالزعيم الملهم وتجريدهما من العلاقة الوثيقة بالأمريكيين بعد أن أصبحت علاقة عبد الناصر بالأمريكيين من خلال هيكل وليس من خلال مصطفي أمين. ودخل السادات علي خط هذا الصراع فعندما اختلف مع هيكل عام1974 وأقاله من الأهرام عين بدلا منه علي أمين عدوه اللدود. ولم يكن هذا القرار صائبا إذ اشتعلت الأهرام بالغضب, لأن علي أمين كان من مدرسة صحفية مختلفة تماما, وكانت محاولاته لتغيير شخصية الأهرام تزيد النار اشتعالا باستمرار.
وكان أحمد بهاء الدين هو الذي يقوم دائما باطفاء النيران بين الطرفين. واجتمع بمصطفي وعلي أمين وقال لهما إن ما يقوم به علي أمين لن ينجح, وأن وجود علي أمين علي رأس الأهرام ومصطفي في الأخبار هو شيء ضد السياسة والمنطق وأن هذا لن يستمر. ورد مصطفي أمين بأنه نصح علي أمين بذلك لأن تغيير شخصية صحفية عمرها أكثر من100 سنة شيء مستحيل.
واستمر علي أمين رئيسا للتحرير وفجأة طلب السادات مقابلة أحمد بهاء الدين وحمل الرسالة بالموعد والمكان علي أمين الذي توجس خيفة, وطلب من بهاء المرور عليه فور انتهاء مقابلته مع السادات. ولم تحدث خلال المقابلة غير مشكلة واحدة هي أن السادات عين بهاء رئيسا لتحرير الأهرام بدلا من علي أمين ورفض قبول كل الأعذار وبعد انتهاء اللقاء ركب السيارة متجها إلي الأهرام, وذهب فورا لمكتب علي أمن وهو لا يعرف كيف سيبدأ معه الحديث. وخاصة أن علي أمين كان في حالة ترقب هائلة وقال له بعد أن جلس انه علم بوقت انصرافه من عند الرئيس وطلب من مصطفي أمين الحضور وكان هذا يقول بهاء مما خفف عني الحرج, فرويت لهما القصة بالاختصار الممكن والهدوء الممكن.. وساعتها قال مصطفي أمين لعلي هذا شلوت من السادات لي ولك.
وبعد أن أصبح أحمد بهاء الدين رئيسا لتحرير الأهرام فإنه لم يشغل نفسه بالسبق الصحفي أو اجراء حوار مع رئيس الدولة.. وكان كلما جاء لقاء مع الرئيس يتحلق حوله الصحفيون علي أمل أن يأخذوا منه أي انفراد للأهرام.. لكنه وهو المشغول بحال الوطن كله.. كان يندهش من ذلك.
لقد قبل بهاء المنصب علي مضض وكان دائم الاعتذار للسادات متعللا بظروفه الصحية التي لم تكن جيدة, وأخيرا استجاب السادات وقدم بهاء استقالته ونصحه الأطباء أن يتخفف من ضغط الصحافة فسافر إلي الكويت ورأس تحرير مجلة العربي الشهرية ثم عاد كاتبا متفرغا بالأهرام يكتب أشهر وأجمل عمود في الصحافة المصرية بعنوان يوميات. كان عمود هو نبض الوطن قال عنه نجيب محفوظ إنني لم أترك مقالا واحدا دون أن أقرأه. كان يكتب بمبضع جراح في يوميات هذا الزمان دولة المقاولين نشرت العمارات للتمليك, ونشرت بناء العمارات بارتفاعات مخالفة للقانون. وناطحات السحاب دون جراج لسيارة واحدة. أو يكتب في قضية شائكة مثل التعليق علي أحكام القضاة: إن من حقي أن أعلق علي حكم قضائي طالما انني مثلا أناقش سلامة تفسير المحكمة للقانون. فإنني هنا أعلق علي الرأي الذي أخذت به المحكمة. أي أن التعليق يتناول الرأي والاجتهاد ولا يتطرق الي شخص القاضي وضميره ودوافعه.
ثم تجده سافرا في العمق يقال إن اشتراك أكثر من أسرة في التحرك بنفس السيارة ضد تقاليدنا. هل رأيتم المنظر داخل الأتوبيس, ومدي اتفاقه مع تقاليدنا! هل رأيتم النساء يجرين وراء الأتوبيس العابر, وتلحق بهن الأيدي حتي لا يقعن تحت العجلات, وكيف ينحشرن في علبة السردين البشرية المتحركة! نموذج من ألف نموذج من تشددنا في المحافظة علي شكلية التقاليد وفي التساهل والانحدار عن جوهر التقاليد.
وعندما حدث غزو العراق للكويت1990 لم يتحمل وهو الرقيق هذه الضربة القاصمة للقومية العربية التي آمن بها ودخل في غيبوبة استمرت ست سنوات حتي لقي وجه ربه7 أغسطس1996
اعتراف
وكتب محمد حسنين هيكل: اعترف أنني طوال أزمة وحرب الخليج لم أفتقد رأيا كما افتقدت رأي أحمد بهاء الدين. وفي وسط الطوفان العارم الذي ساح فيه الحبر علي الورق أكثر مما ساح من الدم في ميادين القتال, فإن كلمة أحمد بهاء الدين كانت هي الشعاع الوحيد الغائب في وهج النار والحريق. كان الكل حاضرين, وكان وحده البعيد مع أنه كان الأقرب إلي الحقيقة والأكثر قدرة علي النفاذ إلي جوهرها وصميمها. ولم يكن ابتعاده الاضطراري مجرد خسارة للعقل المتوازن في أزمة جامحة, ولكن الخسارة كانت أكبر لأن معرفته ببؤرة الصراع وكانت أدق وأعمق بحكم أنه قضي خمس سنوات من عمره مهاجرا بعمله وقلمه للكويت, ومن هناك أطل علي الخليج كله ورأي ودرس ونهم بعمق كما هي عادته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.