بعد أن تعدت نسبة غير الحزبيين، نسبة الحزبيين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لابد أن نطرح سؤالا، أراه مهماً، لماذا لم تستطع الأحزاب السياسية المصرية منذ نشأتها في بداية القرن الماضي أن تتشكل ككيانات تعبر عن مكونات وطبقات المجتمع وتعمل باستقلال عن السلطة بحيث تستمر جزءا فاعلا وقائدا للبناء الديمقراطي في البلاد وبحيث يصبح البرلمان ممثلا تمثيلا حقيقيا للكتل وللطبقات الاجتماعية المصرية المنظمة لها رؤيتها السياسية في إدارة وتقدم الدولة المصرية؟. وعندما نذكر الأحزاب فإننا نعني كل الأحزاب التي نشأت في مصر منذ بداية القرن الماضي حتي عام 1952 عام قيام ثورة يوليو ثم تلك الأحزاب التي تشكلت بقرار جمهوري ساداتي منذ بدء التعددية في مرحلتها الجديدة عام 1976. وذلك بدءا من أحزاب ملاك الأرض إلي الصناعيين إلي العمال إلي الفلاحين. نلاحظ هنا انقطاعا للحياة الحزبية خلال الفترة من عام 52 إلي عام 76 من القرن الماضي. وعبرت فترة الانقطاع هذه عن انقطاع ثان للحياة السياسية التي تعلم الإنسان معني التعددية وتداول السلطة والحوار السياسي والاجتماعي والاختلاف والاتفاق وبناء الكوادر الشبابية والفلاحية والعمالية والنسائية. عبرت هذه الفترة والممتدة لأربعة وعشرين عاما عن فترة تعبئة سياسية يقف فيها المصريون في طابور يقصي المختلف فكريا ويعزله ويحد من حرياته بحجة أنه معاد للثورة الوطنية. والأخطر أن هذا الطابور اتهم هؤلاء المختلفين في الرأي أو في الرؤية بالخروج عن الوطنية. ولم تمس هذه التهمة الخطيرة تيارا بذاته وإنما مست كل التيارات من اليمين إلي اليسار وما بينهما. و يصعب الإجابة عن السؤال المطروح عن زيادة عدد المستقلين في الانتخابات الأخيرة فرديا قدر ما يحتاج إلي إجابة جماعية تنتج من تفكير جماعي لأنه يخص مستقبل البلاد كوطن يدور فيه صراع سياسي متنوع الأطراف والاتجاهات، كذلك مستقبل البلاد كوطن يدور حوله صراع سياسي حاد يهدده من جوانب عدة، بالإضافة إلي أنه محاط بصراع إقليمي لم تمر به المنطقة وشعوبها قبلا. لكل هذه الأسباب تحتاج حياتنا الحزبية إلي التفكير الجماعي للخروج بها إلي الساحة السياسية الملائمة للظرف الحالي والتي تستطيع الإسهام في التطور الديمقراطي. ولا يعني السؤال أن الإجابة عنه تخص الأحزاب أو الكتل السياسية وحدها وإنما تخص الدولة، في نفس الوقت، بل في المقام الأول. تخص الدولة ككيان جامع يضم الجميع بدءا من البشر غير المنضمين لأي كيان سياسي كالاحزاب أو اجتماعي كالنقابات ومنظمات المجتمع المدني والاتحادات والتعاونيات. وليس مطلوبا من الدولة أن تنخرط في مناقشات وحوارات الأحزاب أومنظمات المجتمع المدني، فهذا ليس مسئوليتها أو دورها، لكن ينحصر دورها في توفير المناخ السياسي العام الذي يسمح بالتطور الديمقراطي، حيث تتوافر وتتعاظم فرص التعبير الحر والتنظيم المستقل والحركة المتوافق عليها من الجميع والاعتراف بالتنوع العام السياسي والاجتماعي. ولاشك أنها شروط تجعل البعض منا يخاف، وأحيانا يهدد، مما يسموه بالفوضي وبالانفلات، خاصة في إطار الظروف الحالية. فيجب ألا يزداد فخرنا بحركة المصريين في ثورتي 25 يناير و30 يونيو ثم نحذر من نتائج حركته في عملية بناء الديمقراطية. فالتجارب التي مرت بالشعوب تشير إلي أن الذي يحمي البلدان من الفوضي والانفلات هو تحرك منظمات المجتمع السياسية والاجتماعية تجاه هدف واحد وهو حماية الديمقراطية. والنموذج الأقرب زمنيا يأتينا من فرنسا، حيث لعبت الأحزاب السياسية المختلفة دورها، المختلف كذلك، في إفشال مخطط حزب متطرف يسعي لسنوات للوصول إلي السلطة لينفذ سياساته الرافضة للآخر. وإذا كانت الدولة مسئولة عن توفير المناخ الديمقراطي فإنها مسئولة كذلك ،وبنفس القدر، عن حماية وصيانة الحريات الخاصة والعامة بالقانون وبالممارسة اليومية. وتكون البداية في هذا الشأن، عندما ترفع أجهزة الدولة الرسمية وكذلك الحكومية من تدخلاتها التحتية ووصايتها الادارية لفرض إرادتها علي الحياة السياسية والاجتماعية. فالدولة في المجتمعات المتقدمة سياسيا هي الضامن للحفاظ وازدهار المناخ الديمقراطي. كما أن تلك البلدان الأكثر تقدما سياسيا هي الضامن والحامي للحريات العامة والخاصة. لذلك تنتج هذه الحماية إنسانا حرا لا يخاف من التفكير وإبداء رأيه الحر في كل الأمور، أو بالانضمام لأي منظمة نقابية أو سياسية دون خوف علي حياته وعمله وأسرته. فالأحزاب والنقابات المقيدة الحركة لا تستطيع بناء أي درجة من درجات الديمقراطية. كما أن المواطن المحروم من التفكير الحر لا يستطيع الإبداع والمساهمة في بناء مجتمع عصري مدني. لكن يستمر الدور الأكبر في مرحلة بناء الديمقراطية وتطوير الحياة السياسية علي أكتاف الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والقيادات المحلية في كل موقع. فلمنظمات المجتمع المدني من نقابات إلي المنظمات المدنية والاتحادات دورها في تعليم المواطنين وتدريبهم علي العمل الديمقراطي والرؤية الجماعية من خلال الممارسة والنشاط المتواصل وفتح أبواب العمل بها لمشاركة الجميع وتحويلها إلي بؤر ديمقراطية تمارس تداول السلطة واحترام قواعد الديمقراطية الداخلية. فلا يعقل أن تستمر قيادات منظمات المجتمع المدني تطالب الدولة باستيعاب حركة الشباب واحترام قواعد الديمقراطية وفي نفس الوقت تستمر في مواقعها غير مطبقة ما تنادي به ثم تحجب قياداتها عن ذات الشباب الذي تطالب الدولة باستيعابه. وينطبق ذات الشيء علي الأحزاب السياسية التي تستمر ممسكة قياداتها بالمقاعد غير مبالية بحركة المجتمع الجديد التي تسعي للتطوير والتقدم بحجة أنهم حديثو الخبرة بالعمل العام أو ارتفاع حرارة أفكارهم السياسية. وأبسط مثال علي ذلك يتضح في ثورتي 25 يناير و30 يونيو. فعندما تحرك الشعب المصري في حركة جماعية عامة، تغيرت الخريطة. وعندما قام الجالسون علي الكنبة وتركوها وراءهم وجدنا تطورا عظيما في حياتنا السياسية والاجتماعية وعندما عدنا إلي حالة الكمون وعدنا إلي الكنبة بات عندنا برلمان يضم هذا العدد من المستقلين أو ما أسميهم ب غير الحزبيين الذين يمثلون أنفسهم ولا يمثلون كتلا اجتماعية محددة المصالح والطموحات. كما أن الأحزاب السياسية المصرية، دون استثناء، تحتاج إلي إعادة النظر في برامجها السياسية والاجتماعية. فالحزب الذي تشكل في أحضان ثورة 1919 رافعا شعار الاستقلال التام أو الموت الزؤام بات يحتاج إلي برنامج جديد يعترف بأن الاستعمار القديم جدد من أساليب سيطرته بعد أن طورت الرأسمالية العالمية من أساليب سيطرتها علي العالم وعلي مقدرات الشعوب. ففي الزمان القديم كانت الجيوش هي أداة السيطرة الاستعمارية ولكن الآن باتت حرية انتقال السلع والأموال هي الأساليب الأكثر تأثيرا، كما أنها باتت تجري ويتم حمايتها بالقانون الدولي. وفي ذات الوقت علي الأحزاب اليسارية الاعتراف بأن القكر الاشتراكي الجديد يحتاج إلي تغيير جلده ويعترف بأن تداول السلطة والديمقراطية واللامركزية وحقوق الإنسان قيم لا تتعارض مع مصالح الطبقات الكادحة من عمال وفلاحين وصغار الموظفين، وإنما تقويها وتدعم حركتها بحيث تشارك بحرية في الوصول إلي مصالحها اليومية والعامة. ولا نخص هنا أحزاب اليمين أو اليسار بحسب وإنما نخص كل الأحزاب السياسية التي تشاهد حالة من الانقسامات والتفتت نتيجة لعدم وجود رؤية محددة تمثل الشرائح والطبقات الاجتماعية المصرية. فالملاحظ وجود عدد هائل من الأحزاب تملك مقار متواضعة وعضوية أكثر تواضعا وقد لا تملك في برامجها ما يحدد هويتها السياسية. فلا يعني استخدام كلمات مثل الحرية أو الاشتراكية أنها أحزاب تستطيع تحقيق الحرية من جانب أو العدل الاجتماعي علي الجانب الآخر. لمزيد من مقالات أمينة شفيق