ثورة52 يناير هدفت في المقام الأول إلي ضرب قلاع السلطوية وهدمها تمهيدا لبناء الديمقراطية وفتح الآفاق الواسعة أمام الشعب كي يعبر عن نفسه حرا طليقا من كل قيد. وإذا كانت السلطوية تشير إلي طبيعة بعض النظم السياسية التي تقوم علي تقييد حرية المجتمع بشكل عام, وممارسة القمع السياسي بشكل خاص, إلا انها لا تتعلق فقط بممارسات النخب السياسية الحاكمة, ولكنها أيضا تنصرف إلي ممارسات بعض القوي الاجتماعية والثقافية, والتي قد تمارس القهر أيضا ضد المجتمع نتيجة تبني رؤي مغلقة للحياة. ولعل أبرز مثال لهذه القوي محاولة بعض التيارات الدينية المحافظة والرجعية محاصرة دور المرأة في المجتمع, أو رفع شعارات الحلال والحرام, أو الإيمان والكفر لإرغام المجتمع علي قبول رؤاهم في الحياة والتي تقوم علي الانغلاق الثقافي وعدم التسامح والعداء إزاء الآخر المختلف. ولو اردنا أن نلخص الهدف الرئيسي من هدم السلطوية في عبارة واحدة لقلنا أنها ترسيخ في الواقع لمقولات الحداثة كما عرفتها المجتمعات الغربية المتقدمة. وأهم هذه المقولات علي الإطلاق ضمان حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم وحرية العمل السياسي, وأهم من ذلك تقنين مبدأ تداول السلطة الذي يضمن عملية التجديد المستمرة لبث الحيوية في الممارسة السياسية والاجتماعية. ولو ألقينا البصر علي السمات الرئيسية للسلطوية كما مورست في مجتمعات شتي في الشرق والغرب علي السواء, لاكتشفنا أن هذه السمات تتركز في عدد محدد من الظواهر يمكن تحديدها بدقة, وبالتالي نستطيع ان نقترح البدائل الديمقراطية التي تضمن تحقيق تحرر المجتمع من كل القيود التعسفية التي فرضت من خلال القمع السياسي علي كل الفئات الاجتماعية. ولعل أولي سمات السلطوية السياسية هي انفراد الطبقة الحاكمة المهيمنة باتخاذ القرار. وهذه الطبقة الحاكمة قد تمارس الحكم من خلال حزب واحد مع إلغاء كل الأحزاب السياسية الاخري كما كان الحال في البلاد الشيوعية, أو من خلال حزب يزعم أنه هو الذي يمثل الاغلبية مع وجود أحزاب سياسية معارضة مهمشة ولا وزن لها. وكان هذا هو الوضع في بلادنا, حيث هيمن الحزب الوطني الديمقراطي علي الساحة السياسية باعتباره حزب الاغلبية طوال ثلاثين عاما كاملة من حكم الرئيس السابق مبارك, وذلك اعتمادا علي انتخابات مزورة. وقد سمح هذا الوضع غير الديمقراطي للحزب الوطني بأن يهيمن علي عملية صنع القرار وتوجيهها ليس لمصلحة الشعب في مجموعه ولكن لصالح قلة من اصحاب النفوذ السياسي ورجال الأعمال المنتفعين من النظام, مما ألحق اضرارا جسيمة بالاقتصاد القومي, ليس ذلك فقط بل ادي إلي استقطاب طبقي حاد بين من يملكون كل شئ ونعني السلطة والقوة والنفوذ والثروة وبين الغالبية التي لا تملك أي شئ. ومن هنا فثورة52 يناير كما ظهر من ممارستها منذ نجاح الثورة بالقضاء علي النظام السلطوي وحتي اليوم تؤكد أهمية المشاركة الجماهيرية في اتخاذ القرار. قد تكون المشاركة شعارا جذابا في حد ذاته ولكنه في الممارسة قد تواجه مشكلات كبري. وأهم هذه المشكلات السؤال الرئيسي الذي يدور حول من الذي يمثل الجماهير حقا؟ هل هم طليعة الشباب التي قامت بالثورة, أم القوي السياسية التقليدية أيضا التي انضمت لركب الثورة وأصبحت من مكوناتها؟ والمشكلة هنا أن ائتلاف الشباب بكل أطيافه السياسية قد تختلف رؤاهم في التغيير عن رؤي القوي السياسية التقليدية وسواء كانت يسارية أو يمينية. بعبارة أخري كل قوة سياسية مهما كان وزنها السياسي في المجتمع تحاول فرض رؤيتها علي عملية التغيير وحتي لا يكون حديثنا علي سبيل التجريد فإن القوي الليبرالية واليسارية تركز في المقام الأول علي الطابع المدني للدولة بالاضافة إلي تحقيق هدفي الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية في اختلاف ملموس حول كيف تتحقق العدالة الاجتماعية بين حدين الحد الأدني والحد الأقصي. في حين أن القوي السياسية اليمينية وعلي رأسها جماعة الإخوان المسلمين وباقي التيارات الدينية تركز علي الطابع الديني للدولة, أو بعبارة أخري.. مهما انكرت تطمح إلي إقامة دولة دينية لا تنهض علي أساس الدستور فقط كما هو الحال في أي ديمقراطية معاصرة وإنما علي أساس التوجهات الدينية والتي تتراوح بين التطرف والوسطية. وهكذا يمكن القول إنه مع الاجماع علي أهمية المشاركة الجماهيرية في اتخاذ القرار يبقي السؤال كيف في ضوء الاختلافات الأيديولوجية السائدة بين القوي السياسية. كما شهدنا الخلافات الكبري حول التعديلات الدستورية. وقيل في تفسير النتيجة والتي تمثلت في أن77% قالوا نعم أن هذه الغالبية اثرت علي اتجاهاتها التيارات الدينية نتيجة خلط الدين بالسياسة في حين ان من قالوا لا هم من أنصار الطابع المدني الديمقراطي للدولة. من هذا المثال تبين انه سنجد دائما فجوة بين الشعار الذي هناك إجماع عليه وهو المشاركة في اتخاذ القرار والتطبيق. والسمة الثانية, البارزة من سمات السلطوية هي التزييف المنهجي للوعي السياسي. ولعل ابرز مظاهر هذا التزييف هو إدعاء النظام السياسي في عصر مبارك بأن الحزب الوطني الديمقراطي والذي يضم كما زعم قادته ثلاثة ملايين عضو كذبا والإدعاء بأنه هو حزب الأغلبية! وقد أظهر الواقع كذب هذا الادعاء, لان هذه الملايين المزعومة اختفت بعد نجاح الثورة, في حين ان حزب الاغلبية المزعومة يبين في الواقع انه حزب الاقلية التي اقامت عملية انفرادها بالسلطة علي التزوير الفج لنتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية. كيف نواجه عملية تزييف الوعي السياسي؟ ليس هناك من طريقة سوي تطبيق الشفافية بكل نقائها وبصورة منظمة تقوم علي تحقيقها مؤسسات منضبطة. علي سبيل المثال هناك تساؤل حول ما هو الوزن النسبي للقوي السياسية في المجتمع؟ وليس هناك من قبيل لتقدير ذلك إلا بتأسيس مؤسسات مستقلة لقياس اتجاهات الرأي العام حتي تقدم للمجتمع صورة موضوعية عن خريطة الاتفاقات والاختلافات السياسية والأوزان النسبية لكل تيار سياسي. وفي مجال تقييم انجازات الحكومة أي حكومة لابد من استخدام مؤشرات كمية وموضوعية تصاغ بطريقة علمية وتطبق بكل موضوعية حتي, لا تبيع أي حكومة الأوهام للجماهير عن مدة التقدم والازدهار الذي تم, ويكفي بهذا الصدد ان نشير إلي اكاذيب أمين التنظيم في الحزب الوطني الديمقراطي, الذي دأب علي نشر الاكاذيب التي تشير إلي تقدم الاحوال الاقتصادية والاجتماعية اعتمادا علي أرقام مزيفة, أو نتيجة تأويلات منحرفة لأرقام صحيحة. وذلك مثل الاستدلال علي شيوع الرخاء في المجتمع بالاعتماد علي عدد من يملكون تليفونات محمولة, أو عدد من يتعاملون من الإنترنت. والسمة الثالثة, من سمات السلطوية السياسية هي الاقصاء القمعي للخصوم السياسيين, كما مارس النظام السياسي في عصر مبارك إقصاء الشيوعيين والاخوان المسلمين علي وجه الخصوص. وليكن شعا ر الثورة الأساسي هو الا إقصاء بعد اليوم!, بمعني ضرورة إتاحة الفرصة لكل القوي السياسية يمينية كانت أو يسارية بالعمل السياسي ولكن في حدود الدستور والقانون. وكما رأينا في الاعلان الدستوري الذي اعلنه المجلس الأعلي للقوات المسلحة وكذلك في القانون الخاص بالاحزاب السياسية أن هناك خطرا كاملا علي تشكيل أحزاب فئوية أو دينية. والسمة الرابعة, للسلطوية هي وضع القيود علي حرية التفكير سواء من قبل النظام السياسي الحاكم أو من قبل بعض معاقل السلطوية الفكرية الدينية علي وجه الخصوص. السلطة السياسية الحاكمة تضع القيود علي حرية التفكير بحجة ضمان استقرار المجتمع, والتيارات الدينية المرجعية تمنع حرية التفكير تحت شعارات الكفر والإيمان لوقف عملية التفكير وتجميدها حفاظا علي مقولات بالية وممارسات تعداها الزمن بقرون طويلة. والسمة الخامسة, من سمات السلطوية السياسية هي وضع القيود علي حرية التعبير بفرض الرقابة المسبقة أو اللاحقة علي كل الإنتاج الفكري والفني. وسواء تم ذلك من خلال الرقابة الحكومية أو من قبل بعض التيارات الدينية الرجعية عن طريق استخدام آلية الحسبة للاعتراض علي بعض الانتاج الفكري أو الفني. ولمواجهة هذه الممارسات السلبية لابد من إطلاق حرية التعبير في حدود الدستور والقانون. والسمة السادسة, من سمات السلطوية السياسة هي وضع القيود العنيفة علي حرية التنظيم في مجال تشكيل الأحزاب السياسية أو تكوين النقابات المهنية أو تأسيس التكتلات الاجتماعية, وليس هناك شك في أن الوسيلة المثلي لمواجهة ذلك هي ضمان حرية التنظيم في حدود الدستور والقانون. وأخطر مظاهر السلطوية السياسية علي الإطلاق هو تجميد مبدأ تداول السلطة, وسواء تم ذلك عن طريق مادة دستورية غير شرعية وغير ديمقراطية مثل المادة77 التي تم إلغاؤها من الدستور المصري أو عن طريق الممارسة الفعلية. مع أن مبدأ تداول السلطة وتطبيقه بدقة هو الضامن الحقيقي لحيوية المجتمع السياسي, وقدرته علي التجدد من خلال تداول السلطة بين القوي السياسية المختلفة وحكم الجماهير من خلال انتخابات نزيهة وشفافة علي جودة أدائها. وتجميد تداول السلطة لا يقتصر فقط علي المجال السياسي. بل إنه امتد ايضا لمجال القيادات بشكل عام في كل المجالات, مما سد الطريق امام الشباب الذين منعوا من المشاركة في ادارة البلاد وادارة الشأن العام. بكلمة واحدة تداول السلطة بكل أنواعها, هو الذي من شأنه القضاء النهائي علي تقاليد السلطوية السياسية البائدة, مما يفتح الطريق أمام المجتمع حتي يتطور وفقا لرؤية استراتيجية عصرية تقوم علي ضمان الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية علي السواء. المزيد من مقالات السيد يسين