لا يوجد رأى واحد يمكنه الادعاء بأنه يملك التقييم الوحيد لنتائج الانتخابات البرلمانية التى جرت أخيرا وجاءت بالنتائج الحالية فى البرلمان المصرى الجديد. بالتجاوز والمبالغة يمكن أن نعترف بوجود تسعين مليون رأي. آراء ما بين راضية وأخرى رافضة، وثالثة ترى النتائج لا تعبر عما فى فكرها من اراء ونظريات وبالتالى طموحات. وهو شيء طبيعى بالنسبة لبرلمان يتكون فى مرحلة انتقال سياسية فى بلد يضرب بعمق فى التاريخ القديم والمتوسط والحديث. برلمان يؤسس لمرحلة جديدة فى مرحلة الانتقال هذه. فمصر ليست دولة جديدة تشكلت بعد الحربين العالميتين الأولى أو الثانية، وإنما هى بلد ضارب فى القدم لذلك تأخذ، أو ستأخذ مرحلة تحولها السياسي، فترات زمنية أطول وأكثر صعوبة. تنعكس كل من مدة التحول وصعوبتها على جميع مجالات الحياة فيها وبما فى ذلك على حياتها السياسية والبرلمانية. ولكن علينا أن نعترف بأن النتيجة الحالية التى وصل إليها البرلمان الحالى ليست فقط بسبب هذا القدم الضارب فى التاريخ وإنما بسبب سياسى داخلى آخر، أبسط تعبير لغوى عنه هو أن هذه النتيجة وليدة عملية التجريف السياسى الذى مرت بها الحياة السياسية المصرية منذ عام 1952. بدأت عملية التجريف هذه منذ قيام ثورة يوليو واستمرت بشدة فى السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. تقدم لنا هذه النتيجة دروسا لنا، حكاما ومحكومين. أهم هذه الدروس أن بناء الأوطان وتحصين الشعوب ضد أعدائها يتم على أسس اقتصادية ووطنية وسياسية. يقام البناء فى آن واحد على كل الجبهات حتى لو تأخر أحد أعمدته قليلا. فثورة يوليو بتطورها أنتجت، وبلا أدنى شك، نظاما سياسيا وطنيا، شديد الوطنية، وتنمويا يخدم عملية الاستقلال الوطنى ويأخد بأيدى الطبقات الفقيرة، ولكنه لم يكن ديمقراطيا بالمعنى الكامل لهذه القيمة الأساسية واللازمة لبناء الدول الحديثة وتطوير شعوبها. ولا يعنى ذلك أن ثورة يوليو تسلمت مصرعام 1952 بلدا ديمقراطيا من الدرجة الأول. وإنما مرت مصر منذ بدايات القرن العشرين، ومع بدايات تعالى أول النداءات الوطنية الساعية إلى الاستقلال بحلقات من الحياة السياسية تحقق تطورا بطيئا. تظهر فيها أحزاب سياسية وتنمو لتتراجع أخرى بناء على ظروف سياسية خاصة. قد ترتبط هذه الظروف بوجود وتدخل مستعمر أو وجود عرش وسرايا لها تدخلاتها المرتبطة بانتمائها الطبقي، أو بتراجع الخبرات السياسية التى تجعل الإنسان السياسى لا يقبل الاختلاف مع مجموعات بحزبها دون التفكير فى الانسلاخ عنه. الخلاصة أن مصر لم تكن لديها حياة حزبية مستقلة ولا أحزاب ذات بناء داخلى متماسك يسمح لها بالصمود أمام هجمات المستعمر والسرايا وتدخلاتهما بالتزويرأو الاختراق. وما ينطبق على الحياة الحزبية نراه كان حادثا فى الحياة النقابية. تدخلت فى الحياة النقابية، خاصة الحياة النقابية العمالية، كل الأطراف السياسية المصرية بدءا من السرايا إلى المستعمر إلى الأحزاب، حتى تلك التى تدعى الليبرالية. فهل شهد أى بلد آخر أو أى مجتمع حزبا عماليا يترأسه أمير له مكانه فى السرايا؟ أو أحزابا برجوازية تشكل لها منظمات نقابية تستخدمها كميليشيات فى الانتخابات البرلمانية. أو ملكا يرسل مبعوثه الخاص إلى نقابة الصحفيين حتى لا ينتخب مجلسها عضو المجلس المنتخب د. طه حسين وكيلا له؟. عام 1952 كانت مصر تمتلك حياة سياسية ضعيفة غير قوية، ولكنها كانت بلا شك فى حالة تطور وحيوية، حتى لو كان التطور بطيئا لكون البلد بلدا زراعيا فى الأساس وتنتمى أسرته المالكة إلى طبقة كبار الملاك الزراعيين. ألم يكن فى مصر مؤسسة مالية اسمها الخاصة الملكية؟ ومع ذلك وبالرغم من هشاشة تلك الحياة السياسية بشكل عام عملت حكومات ما بعد عام 1952 ليس فقط على حل هذه الأحزاب والقضاء عليها، وانما سارت فى سياسات عامة لا تقبل المخالف أو المختلف فى الرأى سواء كان فردا أو جماعة، وسواء كان سياسيا أونقابيا، أو مجرد مثقف عادى ولكن له أراءه الخاصة. سياسة ممنهجة أدت فى النهاية إلى هروب الناس ليس فقط من الحياة الحزبية وإنما من الحياة السياسية كذلك. هاجر الناس الحياة السياسية لأنهم لم يكونوا على استعداد للاعتقال أو القهر أو النقل من العمل. ويجب ألا ننسى أن انتخابات النوادى الرياضية والنقابات كانت ذات إقبال جماهيرى عظيم يفوق كل إقبال جماهيرى للاستفتاءات أو الانتخابات خلال الستين عاما الماضية. وحتى بعد أن «شكل» السادات المنابر عام 1976 ثم سمح بقيام الأحزاب، فإن الحكومات المتتالية استمرت تجعل من الأحزاب «كيانات محددة الإقامة والحركة» ولم تعترف بها ككيان من كيانات الدولة المصرية، وإنما كتوابع للحكومة ولحزبها الوحيد أو الكبير. وفيما عدا احداث ثورتى 25 يناير و30 يونيو كأحداث استثنائية فى الحياة السياسية الحديثة للشعب المصري، فإن الرتابة السياسية بدأت تعود مرة أخرى وبدأ الناس يتوجسون من تلك الكيانات المسماه بالأحزاب، سواء كانت قديمة أو جديدة. كما أنهم لم ينسوا أخطار الانضمام إليها أو حتى تكوينها. وهى الكيانات، أى الأحزاب، التى تشكل فى حد ذاتها مكونا أصيلا من البناء الديمقراطى فى أى مجتمع. فلا ديمقراطية بلا تعددية وتداول للسلطة. والأحزاب السياسية التى تتشكل على الملامح الأساسية للبناء الاقتصادى الاجتماعى للمجتمع هى التى تعطى ملمح التعددية الأساسى وهى التى يتم التداول للسلطة بينها. لذا جاءت المشاركة بنسبة 3. 28%. فى تقديري، أن هذا البرلمان الجديد يعكس علاقات مصر الاجتماعية كما هى على الواقع. كما يعكس بكل وضوح مساحة الديمقراطية المتاحة. كما ذكر، مسئول فى لجنة الانتخابات، يضم ما بين عشرة إلى خمسة وعشرين صاحب أعمال. وفى نفس الوقت يضم نحو ثمانين عضوا كانوا أعضاء فى الحزب الوطنى المنحل. ويضم فيما بين خمسين وخمسة وسبعين من الضباط، جيش وشرطة، المحالين إلى التقاعد. ويشكل عدد الشباب ما بين أقل من خمسة وثلاثين، وأربعين عامانسبة 18%. كما يضم البرلمان الجديد 17 نائبة تقدمت فرديا وفازت فى دوائر تحتاج بالفعل إلى الدراسة. تعكس نسبة الشباب وعدد البرلمانيات الفرديات المساحة الحقيقية للديمقراطية المصرية بكل ما لها وماعليها. وفى تقديرى أن نسبة الشباب وعدد البرلمانيات الفرديات هى الناتج الحقيقى لثورتى 25 يناير و30 يونيه وكل المسار الديمقراطى المحدود الذى تلاها. وعندما نذكر عدد السبع عشرة نائبة الفردية فإننا لا نغفل عدد ال87 برلمانية فى هذا البرلمان. ولكنى أفصل بين إرادة الدولة وتمسكها بإرادة مساندة النساء «72» فى قوائم أوبالتعيين، وبين إرادة الجماهير التى جاءت بال «17» نائبة. والدولة هنا تعنى تلك الإرادة المجتمعية التى أقرت الدستور الذى راعى ضمن ما راعى جانبا من التزامات مصر الدولية التى وقعت عليها. ولأن الحياة السياسية وفى قلبها الحياة الحزبية «بخير فى بلادنا» وتحتاج إلى علاجات حادة حتى تقف قوية عفية تلعب دورها فى تطور البلاد، فقد تراجعت نسبة البرلمانيين الحزبيين عن نسبة البرلمانيين الفرديين. حصد الفرديون على نسبة 57% بينما حصدت الأحزاب بتاريخها ومالها وضجيجها نسبة 43% من المقاعد البرلمانية. تعبر هذه النسب عن هشاشة الحياة الحزبية مع علمنا أن بعض تلك الأحزاب تشكلت عضويتها بشكل عشوائى لا يعبر عن توجه سياسى واضح. فهى تجمعات انتخابية أكثر منها أحزابا. ومع كل ذلك لابد من الاعتراف بأن هذه الانتخابات دارت دون تدخل من الحكومة أو أى من أجهزتها التى كثيرا ما علت الشكوى من تدخلها العلنى السافر. هذه خطوة على طريقنا الصحيح ولابد أن نأخذ بها وننميها، بحيث يعاد تشكيل حياتنا السياسية على أسس تسمح بحرية الفرد والجماعة فى اختيار الفكر الذى يراه، أو تراه ملائما لبلاده ولبلادها دون الخوف من قهر جهاز الحكومة أو أى إقصاء وراء القضبان. وعلى الجانب الآخر لابد أن يتم التعامل مع الرأى الآخر سواء كان فردا أو جماعة بأنهم جزء من هذه الدولة، وأن هذه الأحزاب مكون لها، مكوناتها الأخري. إن الاعتراف المجتمعى بحرية التفكير والتنظيم والحركة هو أحد السبل لبناء حياة سياسية عفية تأتى دائما بعضوية برلمانية منظمة، تستطيع تحمل المسئولية الجماعية وتكون مسئولة أمام الشعوب. لمزيد من مقالات أمينة شفيق