انتظرنا طويلا إعلان الأحزاب قوائمها الانتخابية، سواء كانت تلك القوائم حزبية خالصة أى يشكلها الحزب من أعضائه أو قوائم ائتلافية تتشكل بين حزبين أو أكثر أو جبهوية تتكون من بين تيارات سياسية تتفق على حدودها الدنيا السياسية، تاركة حدودها العليا لاختيار حزبى خالص. وطال الانتظار إلى أن خرجت أخيرا قوائم انتخابية سياسية وليست حزبية فى المقام الأول تتنافس على مائة وعشرين مقعدا. تتشكل القوائم المطروحة من شخصيات عامة متباينة الاتجاهات السياسية قد لا يربط بعضها البعض أى خط سياسى يساعد الناخبين على التعرف على أساس البنيان والتوجه الفكريين للقوائم التى تتقدم لبرلمانهم فى مرحلة تحول، تاريخية وفى ذات الوقت فريدة فى تاريخ بلادهم، تخرج فيها مصر من سنوات وسنوات من حكم الفرد إلى مستقبل يؤسس على حكم المؤسسات والقانون والمواطنة الخالصة. لذلك أنتمى شخصيا إلى تلك الكتلة من المواطنين المتابعين للأمور والتى تقدر هذه المجموعات من المرشحين الذين يخوضون الانتخابات كمستقلين، مجرد أفراد، قد لا يعلن البعض منهم عن حقيقة انتماءاته السياسية ولا عن أفكاره الاجتماعية العامة، ولكنهم اختاروا أن يخوضوا الانتخابات الفردية بكل ما فيها من مصاعب وصراعات معلنة أو تحتية قد تنكشف أثناء الحملة الانتخابية ومجرياتها وهى تتنافس على 420 مقعدا. وليس غريبا أن تلك القوائم خرجت إلى الوجود معبرة عن واقع الساحة الحزبية السياسية بكل دقة. فى الأساس تعبر القوائم عن عشوائية الساحة السياسية العامة يشارك فيها الجميع كما يتأثر بها الجميع. تعبر عن بنيان حزبى كثير الكلام وقليل العمل. ولا تعبر هذه الحالة السياسية إلا عن شريحة مدنية تستمر تتفاعل على قشرة المجتمع، إذا صح التعبير.. كما تعبر عن ساحة سياسية تم تجريفها، ثم استمر هذا التجريف المتواصل لستة عقود زمنية مضت. كما أن القوائم تعبر عن شعب نسى حقيقة الحياة السياسية وطرق بنائها واستمراريتها ونضالاتها وكل تلك الخبرات التى كان قد بدأ فى اكتسابها منذ عام 1908، العام الذى تشكل فيه الحزب الوطنى على يد الزعيمين الكبيرين مصطفى كامل ومحمد فريد. وأتصور أن هذه الحقيقة، التى تشيرإلى فقدان الأحزاب السياسية قدرتها على تشكيل قوائم منفصلة أو بقيادتها لابد أن تكون قد شغلت ولا تزال تشغل العديد من محبى هذا البلد. لأسباب عديدة أولها وأهمها أن الديمقراطية لا يمكن أن تسمى ديمقراطية إلا إذا اعتمدت على تعددية سياسية منظمة وعاكسة للمصالح المتباينة للشعب ومدافعة عنها. . فى العلانية. فالتعددية سمة من سمات الديمقراطية ضمن مجموعات أخرى من القيم والتقاليد.. إلى آخر ما نعرفه. فإذا ما كانت التعددية المنظمة هزيلة ضعيفة واهنة فإنها تعكس حالتها هذه على الديمقراطية ذاتها وتصبح هى الأخرى هزيلة ضعيفة واهنة لا تستطيع المشاركة فى البناء والتطور. وتتضح إحدى صور الضعف الحزبى هذه عندما نستمر نسمع أحد الأحزاب يثير الضجيج ويتحدث عن قيادته لقائمة حزبية سياسية ويتمسك بهذه القيادة، ثم ينتهى به الأمر إلى أن يندمج فى قائمة غير حزبية متنازلا عن كل شروطه المسبقة والتى طالما اراد فرضها على الآخرين وغالبا على الجميع. وقد يتساءل البعض عن السبب الذى جعل الاحزاب السياسية المدنية تقع فريسة لهذا التجريف بينما تحايلت على هذا الوضع السياسى المجرف جماعة الاخوان المسلمين واستطاعت أن تنمو وتتمدد، ثم تحقق مكاسب انتخابية عديدة. يبدو هذا صحيحا. واستمر صحيحا إلى أن تسلمت الجماعة السلطة وباتت غير قادرة على إدارة شئون هذه الدولة القديمة المركبة التى لم تتغير حدودها الجغرافية منذ قدماء المصريين. وبجانب عدم قدرتها هذه، لم تكن عليمة وكذلك لم تملك خبرات إدارة دولة بهذا الحجم أو التنوع. لم يكن المصريون على علم بهذه الحقائق إلى أن جاءت الجماعة إلى الحكم واكتشفها الشعب على حقيقتها. فى تقديرى أن الهشاشة والتجريف السياسى اللذين كانا منهاج التعامل السياسى من الدولة منذ 1952، كانا، ولا يزالان السبب الرئيسى فيما نحن فيه الآن من ترد وتراجع سياسى عام. منهاج تعامل الدولة علم الشعب المصرى الابتعاد عن كل ما هو سياسة أوحزب سياسى إلا إذا كان هذا النشاط أو الحزب فى حضن الدولة وفى ظلها. كان ذلك هو الموقف الآمن الذى يضمن استمرار الوظيفة والعلاوة وعدم النقل وتيسير المصالح اليومية. كما يضمن الأبهة وامتلاك السلطة الصغيرة على الآخرين من المواطنين البسطاء فى المواقع الصغيرة. كما أن هذه التعددية لم تكن ولن تكون مجرد تعددية سياسية، وإنما تستمر فى كل بلد ديمقراطى تعددية عامة، نقابية وتعاونية، كما تتلازم مع حركة الاتحادات العمالية والطلابية والنسائية والفلاحية. فالتعددية قيمة أساسية اجتماعية تعمل فى ظلها كل المنظمات والأحزاب السياسية فى أى مجتمع ليبرالى غير مخطط. فالمنهاج الذى اتبعته الدولة ذات التوجه التنموى المخطط جعلت المصريين يلتصقون بوحدانية التنظيم لأن هذه الدولة ذات التوجه التنموى المخطط كانت تضمن لهم حاضرهم ومستقبل أولادهم. ثم عندما جاءت الدولة، ذاتها، وغيرت مسارها الاقتصادى الاجتماعى فى السبعينات لم تسمح بالتعددية الحقيقية وتمسكت بذات السياسة القديمة للحفاظ على السلطة والحكم. لم تفهم الدولة منذ السبعينيات أن تحرير الاقتصاد يعنى تحرير السياسة والمنظمات الاجتماعية الأخري. لم تفهم الفرق بين تحقيق التعددية بمنطق السياسة الديمقراطية العامة وبين السماح بالتعددية المقيدة التى هى فى الأساس وحدانية التنظيم والرأى والحركة ولكن ب «شياكة»، مفضوحة وغير ذكية وقصيرة النظر. فالدولة فى مجتمع التعددية الصحيحة لابد أن تقف محايدة بين كل التيارات الفكرية والأحزاب السياسية وحتى بين المنظمات الديمقراطية العامة التى ينظمها الناس بإرادتهم وبنضالاتهم كالنقابات والاتحادات ولا تدخل بذاتها وجهازها الحكومى فى الصراع السياسي، لتترك التجارب الانسانية تتفاعل فى مناخ مفتوح لفرص متكافئة لتنتج فى النهاية مجتمعا يحمل تقاليد الديمقراطية الصحيحة ويدفع ويشارك فى حركة التقدم. نحن الآن أمام نتائج واضحة لتدخل الدولة كطرف حزبى استمر لعقود ستة، أحزاب هشة فى ساحة سياسية هشة ومجتمع يفقد قدراته وقدرة خلاياه الاجتماعية فى مواجهة الأخطار بأسلوب سياسى ناجح. لا نستطيع إلقاء كل اللوم على الأحزاب وعلى أعضائها. فى النهاية حاولت الأحزاب كما حاول أعضاؤها ولم ينجحوا فى الإفلات من اليد الثقيلة للدولة. ولكن يكفيهم شرف المبادرة التى حملتهم العناء الكثير على مستوى الحياة اليومية. وعلينا أن نعى أن هذا المنهاج السياسى للدولة ترك لنا مجموعة كبيرة من البشر رفضت الحياة الحزبية المنظمة واستمرت تستريح إلى مقاعد وثيرة وتتحدث كثيرا فى السياسة والنقد وإلقاء اللوم دون التورط فى المشاركة. وللأسف أورثت تقاليدها هذه لشباب هذا العصر. خواء الحياة السياسية عزوف الناس والشباب عن الدخول إلى الحياة المنظمة خوفا من المغامرة السياسية أو إنكار لوجود الآخر معاناة الاحزاب من اضطهاد السلطة (اضطهاد الأفراد) لمزيد من مقالات أمينة شفيق