مقولة انتظار الأحزاب حتي تقوي وربطها بكل ما تشهده العملية السياسية ووقف أي تطور ديمقراطي عليها هي مقولة في حاجة الي مراجعة, خاصة بعد الاخفاقات المتتالية التي منيت بها التجارب الحزبية في مصر منذ عودة التعددية في منتصف السبعينيات وحتي الآن .بل والأهم من ذلك, أن التمسك بالمظهر الشكلي للحياه الحزبية قد أضر بالتحول الديمقراطي بأكثر ما أضاف اليه ويكفي للتدليل علي ذلك أن كثيرا من الأحزاب السياسية اعتمدت في وجودها واستمراراها علي الدولة بالأساس ولم تكن كيانات مستقلة. وخلال السنوات الأخيرة ظهرت العشرات من الأحزاب الجديدة دون أن يكون لها وجود جماهيري ولا ثقل سياسي يرشحها لأداء مميز أو فاعل علي الساحة, ناهيك عما تسببت فيه من تصدرشخصيات- بدون خلفية تؤهلها للعب دور سياسي- للمشهد العام لمجرد أنها تحمل اللافتة الحزبية حتي ولو ظلت أسماء أحزابها مجهولة للعامة والخاصة. وفي هذا السياق جاءت أغلب ما سمي بجلسات الحوار الوطني التي عقدت في الماضي خالية من المضمون. فقد كان الاهتمام بالتمثيل الحزبي يفوق ما عداه من تمثيل حقيقي لتيارات وفئات المجتمع المختلفة التي كانت خارج اطار الأحزاب. ولم يقتصر الأمر علي ذلك, بل أصبح اختيار النظام الانتخابي معضلة في ذاته لضمان ضبطه علي مقاس الأحزاب, فأصبح جدل التفضيل بين النظامين الفردي أو القوائم الحزبية, أو الجمع بينهما هو جدل مستمر. ورغم أن مصر أخذت بالنظام المختلط- مع التحيز للقائمة في مراحل معينة- لمساعدة تلك الأحزاب, الا أن ذلك لم يؤد الي تقويتها, ولا مساهماتها بفاعلية في التحول الديمقراطي. بل أدت في أغلب الأحيان الي الطعن في دستورية هذا النظام المختلط و تطبيقاته, ما أسفر عن حل البرلمان أكثر من مرة. والظاهرة الأخري التي تستحق الرصد, هي إخفاق الأحزاب وعلي مدي عهود مختلفة في اجتذاب الأجيال الجديدة التي دخلت عالم السياسة والحياة العامة من ابواب مختلفة( مثل حركات الاحتجاج الاجتماعي, ائتلافات الشباب, منظمات المجتمع المدني) والتي كانت أكثر تأثيرا وحضورا منها, خاصة مع اعتمادها علي وسائل الاتصال الحديثة التي تجاوزت الأطر التنظيمية الجامدة أو الهشة للأحزاب. هذه الظاهرة لا يمكن تجاهلها عند الحديث عن دور الأحزاب وأهميتها ومستقبلها لسبب بسيط وهو أن الواقع تجاوزها أكثر من مرة, ومن ثم فمن الصعب وقف عملية الانتقال الديمقراطي عليها كمعيار أساسي أو وحيد. وبالمقارنة مع ظروف نشأة الأحزاب في النظم الديمقراطية( أوروبا و أمريكا تحديدا) سنجد أن الديمقراطية لم تكن نتاجا تلقائيا للتعددية الحزبية بقدر ما كانت نتاجا لتعميق القيم و الثقافة الديمقراطية, فضلا عن تراكم الخبرة والممارسة السياسية لدي النخبة والجماهير معا. فالأحزاب السياسية بالمعني الحديث أعقبت عصر النهضة الأوروبية وانتشار الثقافة العقلانية التي رسختها وما تلاها من تحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية وارتبطت مباشرة بالانتقال من المجتمعات ذات الاقتصاد التقليدي( الاقطاعي والزراعي والريعي) الي الاقتصاد الحديث, الذي غير بشكل جذري من طبيعة المجتمعات الغربية, مثلما ارتبطت بنمو الطبقة الوسطي واتساع قاعدتها وجودها السياسي الذي تبلورفي النهاية في شكل أحزاب. لذلك فقد نشأت في البداية داخل البرلمانات التي سبقت في نشأتها الأحزاب عندما سعت لتتجاوز تمثيل الطبقة العليا( التي كانت تعرف بطبقة النبلاء) لتشمل فئات وشرائح اجتماعية أوسع, أما الأحزاب التي تأسست من خارج البرلمانات, فقد تشكلت من المؤسسات المدنية( كالنقابات, والجمعيات الثقافية والاتحادات الصناعية والتجارية وغيرها). بعبارة أخري كانت نشأة الأحزاب في الخبرة الغربية نشأة طبيعية وحقيقية و ليست مفتعلة أو شكلية. وحتي مع هذه النشأة الطبيعية والقوية فان ذلك لم يمنع من التأثير السلبي في بعض الأحيان لدور أحزاب بعينها علي الحياه السياسية والتطور الديمقراطي في أوروبا مثل تجارب الأحزاب الشمولية( كالشيوعية والفاشية والنازية). لكن وبغض النظر عن هذه الاستثناءات, فلم تكن ظروف نشأة الأحزاب في التجارب العربية مشابهة لمثيلتها في الغرب, حيث تم زرع هذه الأحزاب التي هي في النهاية صيغة أو شكل متطور من التنظيمات السياسية الحديثة- في بيئة تقليدية لم تستكمل مقومات التحديث. القاء نظرة علي المشهد الحزبي في مصر تعطي نفس النتيجة رغم وجود بعض المحاولات الجادة التي قد تسفر عن بنية حزبية أفضل في المستقبل و لكن ربما ليس الآن. فالأحزاب التي تعبر عما يسمي بالتيارات المدنية تم اختبار القديم منها ولم يكن الأداء بقادر علي أن يحدث فرقا جوهريا, وبالنسبة للأحزاب الجديدة فهناك قلة منها تحاول تغيير الصورة النمطية لضعف الأحزاب ولكنها لم تصل الي درجة يعتمد عليها بشكل كبير, وباقي الأحزاب لا تزيد عن كونها تصب في خانة الكثرة العددية دون امتلاك تنظيم حزبي قوي أو حتي معني سياسي يمكن التوقف عنده. وحتي الأكثر جماهيرية منها, مثل تلك المنتمية للتيارات القومية أو الناصرية فهي تعتمد في الواقع علي ميراث الزعامة التاريخية للرئيس الراحل عبدالناصر دون انجاز ذاتي جديد مثل حالة التيار الشعبي. أما ما تعرف بأحزاب الاسلام السياسي فهي أبعد ما تكون عن التنظيمات الحزبية الحديثة, وان حصدت في فترات سابقة كثيرا من الأصوات في البرلمانات المتعاقبة. لهذه الأسباب فقد تجاوز الشعب الأحزاب و لعبت حركة غير حزبية مثل تمرد الدور الأساسي في30 يونيو, ومثلها كانت حركات مشابهة في25 يناير. والأهم أن ارادة الشعب وخياراته السياسية تجاوزت جميع الأحزاب كما تؤكدها الحالة الراهنة في مصر, اذ أن كتابة الدستور هو حدث حظي باهتمام أكبر من الانخراط في الأنشطة الحزبية والمطالبة الجماهيرية بتقديم انتخابات الرئاسة عن البرلمان تؤكد نفس المعني, وهي المطالب التي تبلورت من خلال تجمعات مدنية خارج اطار الأحزاب. ان الرؤية الواقعية تقول ان العملية السياسية لن تكون رهنا للأحزاب التي تمر هي ذاتها بعملية تغيير والتي لن تكتمل الا تدريجيا, وسيكون هناك فرز لتلك القابلة للتطوير وغيرها التي يجب أن تختفي من الساحة, وأنه حتي مع اعتماد نظام القائمة جزئيا في الانتخابات البرلمانية القادمة, فلن يغير ذلك جذريا أو سريعا من واقع حال الأحزاب. لمزيد من مقالات د . هالة مصطفى