لا شك في أن مصر منذ أن عرفت التعددية الحزبية بمعناها الحديث في مطلع القرن الماضي لم تشهد مثل هذا الحراك الحزبي, الذي تشهده منذ ثورة25 يناير. وتتجلي مظاهر هذا الحراك في إقبال عدد كبير من المواطنين علي خوض تجربة تأسيس أحزاب سياسية, أو علي الأقل الانتماء إلي الأحزاب الجديدة خاصة من قبل المثقفين وأعضاء الطبقة الوسطي المصرية. وتشير خبرة الدول التي مرت بمراحل مشابهة من التحول الديمقراطي نتيجة ثورات أو انتفاضات شعبية أسقطت نظما مستبدة إلي أن ظاهرة الإقبال الواسع علي تأسيس أحزاب جديدة هي ظاهرة طبيعة شهدتها دول شرق ووسط أوروبا وأمريكا اللاتينية. ولم تشهد مصر تعددية حزبية حقيقية في ظل العهد السابق, حيث كان هناك حزب مهيمن يحتكر السلطة بصفة دائمة وإلي جواره مجموعة من الأحزاب الصغيرة التي لم تنمو إلي الدرجة التي تؤهلها للمنافسة علي الحكم. والسؤال هنا: ما هو مستقبل الحياة الحزبية في مرحلة التحول الديمقراطي؟ وهل يمكن أن تشهد مصر تطورا حقيقيا في التعددية الحزبية يسمح لجميع الأحزاب الجديدة بالتنافس الديمقراطي ويسمح بعملية تداول سلمي للسلطة؟. وللإجابة علي هذه التساؤلات, يمكن القول أن هناك عدة عوامل أساسية سوف يكون لها تأثير كبير علي مستقبل التعددية الحزبية في مصر, وهي التي ستحدد مدي إمكانية نضج هذه التعددية من عدمه, منها علي سبيل المثال: أولا, الإطار الدستوري والقانوني, الذي تنشط الأحزاب السياسية في إطاره, حيث يتعين أن يعترف الدستور بالتعددية الحزبية وحق الأحزاب في ممارسة نشاطها دون أي قيد أو شرط, ويعترف بحق المواطنين في حرية الرأي والتنظيم ودعوة الآخرين إلي الانضمام لأحزابهم, كما يجب عليه أن يوفر الشروط المجتمعية لممارسة العمل السياسي الجماهيري دون أية قيود. ويشترط علي القوانين الأخري, مثل قوانين مباشرة الحقوق السياسية, والأحزاب وغيرها, ألا تصادر هذه الحقوق وأن تنظم فقط حق ممارستها في إطار من الشرعية السياسية. ثانيا, طبيعة السلطة القائمة, وهل هي سلطة ديمقراطية تولت الحكم من خلال وسائل ديمقراطية أم أنها سلطة استبدادية كما كان الحال في مصر قبل2011, وإلي أي مدي ستسمح هذه السلطة بالتداول السلمي لأعلي المناصب في الدولة. ثالثا, طبيعة العلاقة بين الأحزاب القائمة, فإذا كانت هذه العلاقة تعاونية فسوف تساعد علي نضج التجربة الحزبية الجديدة, والعكس صحيح, فإذا حدث تناحر وتنافس بين الأحزاب الجديدة فسوف تنال الصراعات بينها علي الكثير من وقتها الذي من المفترض توجيهه إلي الجماهير. رابعا, مدي توافر المقومات الأساسية للأحزاب الجديدة, والتي لا يمكن بدونها اعتباره الحزب حزبا حقيقيا مثل البرنامج السياسي والكادر السياسي وشبكة العلاقات الجماهيرية والانتشار الجغرافي بما يؤكد أنه يعبر بالفعل عن قوي اجتماعية محددة في المجتمع. أيضا تعتبر القدرات المالية والمقرات الحزبية من المقومات الأساسية المطلوبة لأي حزب. ويضاف إلي ما سبق البنية التنظيمية, فأغلب الأحزاب الجديدة لا يمتلك بنية تنظيمية مؤسسية واضحة, فلا يوجد لها تمثيل في المحافظات أو مقار بها, ولا تستطيع أن تقدم مرشحين عنها في أغلب الدوائر. خامسا, آلية إدارة الصراع الداخلي, وهي من أهم العوامل التي يتوقف عليها مستقبل الأحزاب الجديدة. فأحد الملامح الرئيسية للأحزاب المصرية أنه ليس لها خريطة مستقرة, وإنما علي الدوام تجد إضافات لتلك الخريطة بقيام أحزاب جديدة تشمل في الأغلب أعضاء وقيادات انشقوا عن أحزابهم الأصلية, وذلك نظرا لعدم وجود آلية سلمية لإدارة الصراع الداخلي في الأحزاب. والجدير بالقول أن الديمقراطية داخل الأحزاب تقاس بعدد من المؤشرات, مثل البناء التنظيمي, وعملية صنع القرار الحزبي, ودوران النخبة الحزبية, وإدارة الصراع داخلها.سادسا, البرامج الجيدة والقابلة للتطبيق والقدرات المالية والاتصالية والتواصل مع الجماهير. فقد كانت الحجة الرئيسة لأحزاب المعارضة في ظل النظام السابق, أنها محاصرة داخل مقارها وأنها لا تستطيع أن تخرج منها. أما الآن فالمناخ مفتوح والأجواء ملائمة لأي عمل حزبي حقيقي خاصة في ظل تشوق المصريين بشكل عام إلي الحريات لاسيما تلك المرتبطة بالانتماء إلي الأحزاب, وفي ظل الإعلام المفتوح الذي يستطيع أي حزب من خلاله الوصول إلي أكبر عدد ممكن من المواطنين. وعلي الرغم من بعض العوائق التي تواجه نشأة الأحزاب خاصة تلك الناشئة من قانون الأحزاب السياسية الذي صدر مؤخرا, إلا أنه جاء ملبيا إلي حد ما- لتطلعات الشعب في مستقبل سياسي أفضل, وبمثابة إعادة الحياة السياسية والحزبية إلي العمل, ونقلها من حالة الموات والتجميد التي كانت تعاني منها لعقود سابقة إلي العمل مرة أخري. كما أن المرحلة الثورية الحالية ستشهد تطورا إيجابيا لتوافر العوامل المشجعة علي نضج التعددية الحزبية وزيادة عدد الأحزاب القادرة علي المنافسة علي تداول السلطة, وإن كان هذا التطور لا يسير بشكل كاف نحو تطور ديمقراطي كامل أو أمثل, ولكنها خطوات إيجابية وإن لم تكن كاملة. واللافت أنه بعد صدور القانون شهدت الساحة السياسية ما يسمي بالانفجار الحزبي, وظهر العديد من الأحزاب التي تسعي للتواجد في الشارع السياسي بجانب ظهور قوي وأحزاب كانت متواجدة بشكل غير رسمي لعدم موافقة لجنة شئون الأحزاب عليها. وتتسم الأحزاب الجديدة بعدة سمات يأتي في مقدمتها أنها, أو بعضها علي الأقل, نخبوية في عملها وإدارتها ولم تستطيع الوصول إلي رجل الشارع العادي, لذا نستطيع أن نطلق عليها لفظ' أحزاب الميدان', فمؤسسوها إما من ثوار التحرير, أو من الذين عزفوا عن المشاركة السياسية طيلة السنوات الماضية, وإلي جانب هؤلاء وهؤلاء آخرون شجعتهم الثورة علي خوض التجربة الحزبية والعمل السياسي. كما جعلت من أربعة أو خمسة مصطلحات سياسية مسميات لها مثل:' الديمقراطية والعدل والحرية والتنمية'. مما يدل علي أن الأحزاب جعلت من شعارات ثورة25 يناير مسميات لها دون الاهتمام بالمضمون أو البرامج, هذا من ناحية. ومن ناحية أخري, هناك تشابة كبير في برامجها, باستثناء حالات الاختلاف الأيديولوجي الواضحة في قليل منها. وبتحليل برامج وأهداف وشعارات الأحزاب الجديدة يصعب التمييز بينها, فجميعها تتفق علي مجموعة من القواسم المشتركة, والاختلاف يكون في تفاصيل جزئية أو سياسات فرعية. ومن ناحية ثالثة, يلعب المال السياسي دورا كبيرا في نشأة الأحزاب الجديدة, فيقف رجال الأعمال وراء عدد لا بأس به من هذه الأحزاب سواء أكانت ليبرالية أو يسارية أو دينية. ومن ناحية رابعة, تصدرت الأحزاب ذات المرجعية الدينية المشهد الحزبي الجديدة خاصة تلك الناشئة عن التيار السلفي, والتي وصلت حتي الآن إلي10 أحزاب. وعلي الرغم من أن حق جميع المصريين أن ينشئوا أحزابا أو ينتموا إلي أحزاب, وهذا حق أصيل للجميع, فإن الصورة التي ظهرت بها هذا الأحزاب تجعل جميع الفئات الأخري في المجتمع قلقة علي مستقبل التطور السياسي والديمقراطي, خاصة وأن التغيير ليس بالضرورة أن يأتي بالأفضل, وأن هذا المستقبل يتوقف علي كيفية وطريقة إدارة الصراع في المرحلة الانتقالية. بمعني مغاير, من حق السلفيين وغيرهم أن ينشئوا أحزابا أو جماعات ضغط تعبر عنهم, خاصة وأنهم قادمون لا محالة لمعترك المشهد السياسي والحزبي, ولكن هذا يتطلب التغيير في عقائدهم السياسية علي الأقل خاصة وأنهم كانوا مع بقاء مبدأ وجوب طاعة الحاكم إلا إذا كفر, وكانوا ضد دخول البرلمان ويعتبرونه خطأ أو خرابا لأن التشريع فيه يقوم علي غير إرادة الله. ولهم كتب تقول إن الديمقراطية كفر, وليس فقط حرام, لذلك فهم بحاجة إلي مراجعة هذه الكتب إذا أرادوا ممارسة السياسية. والخلاصة, فإن ثمة ضرورة للاهتمام ببرامج الأحزاب ليس فقط الجديدة ولكن القديمة أيضا حتي تستطيع جذب المواطن العادي. والعبرة في الواقع ليست بعدد الأحزاب ولكن بقوة تأثيرها في الحياة السياسية ومدي شعبيتها والتحامها بالمواطنين.