عشت في شبرا ثلاثين عاما, تقريبا في كل مناطقها, حي بديع يتجلي فيه الله والوطن في أعظم الصور, ويتحرك فيه البشر بتلقائية وسلاسة, الله واحد أيا كانت الطريقة التي نحبه بها, والوطن واحد أيا كانت فصيلة الدم التي تجري في عروقنا.. وكلنا أبناء الله, لا احد يحتكر محبته والأيمان به, وكلنا أبناء الوطن لا أحد يملكه أكثر من الأخر! شبرا حي بسيط, التسامح فيه جزء من أساس بيوته و طلاء عمائره وعادات أهله ولغة سكانه, كل فترة أعود إليه, فاردا أجنحة الشوق متجولا, طوسون وبديع وشيكولاني وخلوصي, وكنيسة سانت تريز ومدرسة شبرا الثانوية والجامع الهجين والترعة البولاقية ومدبولي الحلواني ومكتبة دار المعارف وعمارة حسين رياض وكنيسة خماروية والجامع الخازندار ومطار المنوفية, وسينما شبرا بالاس التي اتحسر عليها بعد أن هدمها الجهل والعشوائية لتنتصب محلها عمارة ضخمة قبيحة تزيد من الزحام والتلوث. وشبرا لمن لا يعرفها حي حديث نسبيا, ليس له عراقة القاهرة القديمة كالسيدة زينب والحسين ومصر القديمة وبولاق والموسكي, وكان إلي بداية القرن الماضي مجرد أرض زراعية تشقه ترعة شهيرة, وهي التي ردمت وسمي واحد من أهم شوارعها باسم الترعة البولاقية, ولا أعرف سر وصفها بالبولاقية, ربما لأنها استمدت مياها من نيل بولاق! ثم تسلل العمران إليها قصورا للشوام في البداية ثم زحف تدريجيا حتي أخذت شكلها النهائي حي شبرا, لا هو بالأرستقراطي ولا هو بالحي الشعبي القح في مجمله, هو حي بين بين, تجد فيه الأسر الموسرة, والأسر المحدودة الدخل, لكن ما يميزه هو رءوس أبنائه, عقلياتهم, عقلية الطبقة الوسطي التي كانت, العقلية المتفتحة للتواصل والتعلم والتفهم والتطور, وقبل كل ذلك المحبة وقبول الاختلاف, مما يجعل الحياة مع الآخرين متعة وهناء وعشرة طيبة. لم يكن أهل شبرا يتحدثون عن الآخر, فالآخر لفظ غريب لا وجود له من الأساس, لم يدركوه في الوعي الجمعي, لأنهم أهل وجيرة وأصحاب, والعلاقات بسيطة وعلي سجيتها, والمسافة بين الأنا والأخر مجرد فركة كعب نقطعها في نكتة وعشرتين طاولة ووقوف علي الناصية وطبق أرز باللبن في المواسم والأعياد وزيارة عائلية و ذهاب إلي السينما ورحلة نيلية وعزومة علي العشاء وسهرة جماعية. وهذا شئ طبيعي في حي يسكنه مصريون وأجانب من جنسيات مختلفة, حي دولي وإقليمي, لكن عرق الروح المصرية ضارب بجذوره في تلافيف أدمغتهم وأنسجة خلاياهم وشرايين دمائهم. خلطة يمكن أن تجدها في عمارة واحدة, مصريون علي أرمن علي لبنانيين, أو مصريون علي طليان وسوريين, أو مصريون علي يونانيين وفلسطينيين, مسلمون سنة ومسيحيين أرثوذكس وبروتستانت ومارون وانجليين وكاثوليك. خلطة يندر أن تتواجد في بيت واحد في أي مكان في العالم, ولها هذه الصفات والعلاقات الرائقة مثل اللبن الحليب, بشر يجمعهم حب الحياة والضعف الإنساني, يعبدون الله كل بطريقته, يصلون ويصومون ويتمسكون بكتابه, لكنهم أيضا يمرحون ويغنون ويرقصون ويقعون في المعاصي ويستغفرون و يعترفون بالخطايا! ياه ما أجمل الحياة في شبرا, ذكريات محفورة تصد طبائع النسيان وقدرة الزمن, كيف يمكن أن انسي الأستاذ وديع مدرس اللغة الإنجليزية في مدرستي الهاشمية الإعدادية بشارع قضاعي, رجل طويل نحيف حاد الطباع, أرثوذكسي شديد التدين والصرامة, حين يدخل إلي الفصل يمكن أن تسمع دبيب النمل, ويظل يشرح ويعيد ويزيد كما لو أنه يحاول أن يسقينا اللغة, وفي يوم ربت علي كتفي وسألني أن اذهب إلي السبورة وأكتب جملة ثم أعيد صياغتها بطريقة أخري, وحين فعلت صفق بشدة وسعادة بالغة, ومد يده في جيبه وأخرج خمسة قروش كاملة ووقع عليها باسمه..من يومها أحببت اللغة ولم أتوقف عن تعلمها! أو سانت تريز, حين أخذتني أمي إلي زيارتها وأنا مريض, طلبت مني أن أشعل شمعة للعذراء, ففعلت ذلك بمنتهي الخشوع, وتعلقت بهذا التصرف سنوات طويلة, وكنت كلما مررت بالكنيسة فأدخل وأشعل الشمعة وكان أبونا مينا يستقبلنا باشا هاشا, ويطبطب علي ظهورنا بود شديد, ويودعنا قائلا: في رعاية الله. أو عم فتحي صاحب الكشك الشهير علي سور الراعي الصالح, ينثر كتب طه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم وسلامة موسي وسلسلة أقرأ الشهيرة روايات عالمية وروايات الجيب, بعضها جديد وبعضها مستعمل, ونستبدل بالروايات القديمة روايات جديدة بقرش صاغ. ومجدي ويصا, وما أدراك ما مجدي ويصا, كان حريفا يلعب معنا الكرة الشراب في فريق سميناه المحبة, وكنا نلعب مع الفرق الأخري علي باصة, والباصة عبارة عن ورقة ندون فيها نتيجة المباراة واعتراف بالفريق الفائز, وثيقة نعاير بها بعضنا البعض في مرح دون جنازير أو مطاوي أو شماريخ, وذات مرة جاءنا مجدي مضروبا كان يلعب مع فريق تعرف عليه في كنيسة خماروية وانتهت المباراة بخناقة وضرب, فاجتمعنا ليلا لنبحث كيف نرد علي من ضربوا ابن حتتنا, واتفقنا عل القيام بغارة علي شارع المعتدين وكانوا شلة من أولاد مسلمين ومسيحيين, ضربناهم وعدنا جريا وهو معنا, أولاد شارعنا ضد أولاد الشارع الأخر البعيد, لم يكن الدين يفصل بيننا, بل أصلا لم نفكر فيه بهذا الشكل, كنا فريقا واحدا, لم ترد كلمة مسلم ومسيحي علي لساننا أبدا, بل لم أعرف حكاية المسلمين والمسيحيين بهذا الشكل الغريب العجيب إلا بعد تخرجي من كلية التجارة حين وقعت أحداث الزاوية الحمراء! ولا يمكن أن أنسي حكاية السيدة سهير, وكانت سهير متزوجة من الحاج عباس بعد أن طلق أم العيال, وهو صاحب عربات نقل يقترب من الستين ويكبرها بأكثر من ثلاثين عاما, ويسكنون بالدور الأول من بيت ملك في حدائق شبرا, وأنجب منها ولدا وثلاث بنات, وتعرفت الست سهير علي نادر حنا شاب يصغرها بخمسة أعوام, تعلقت به, بل جنت به, وطلبت الطلاق وتزوجته عرفيا, وتبرأ منها أهلها وأولادها, وابتعد عنه أهله, وعاشت معه في أول شبرا, علي مسافة أربعة أو خمسة محطات ترام عن بيتها القديم, دون أن تعلن لأحد عن عنوانها إلا لواحدة من بناتها كانت الأصغر ولم تقطع معها حبل الود, وهي التي عرفت منها هذا السر الخطير! وقع هذا الحادث في هدوء ودون تحريض وفتنة وتشهير. ومازالت شبرا محتفظة بروحها, وإن تغير شكلها كثيرا!