بدء التسجيل الإلكترونى لرغبات الطلاب بجامعة القاهرة الأهلية 30 أغسطس الجارى    سعر الذهب اليوم في مصر ببداية تعاملات الأحد    منها 3 شاحنات وقود.. تواصل دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة    إيران تعليقا علي قرار الكابينت الاسرائيلى باحتلال قطاع غزة كاملا : يهدف لمحو هوية وكيان فلسطين    حرض على العنف.. السجن 20 عاما لرئيس وزراء تشاد السابق    إنقاذ مهاجرين في فرنسا اختبأوا داخل شاحنة مبردة متجهة إلى بريطانيا    كرة اليد، تعرف على مباريات منتخب مصر في الدور الرئيسي لمونديال الناشئين    القبض على التيك توكر لوشا لاتهامه بنشر فيديوهات تنتهك القيم الأسرية    محمد شاهين ضيف إسعاد يونس في "صاحبة السعادة" اليوم    فى فيلم روكى الغلابة .. مريم الجندى تواصل تقديم دور الصحفية بعد " ولاد الشمس "    وزارة الزراعة تعلن التشغيل التجريبى للمتحف الزراعى مجانا للجمهور    لليوم العاشر.. عمرو دياب الأكثر مشاهدة على يوتيوب ب كليب «خطفوني»    مصر وتركيا تؤكدان السعي لرفع التبادل التجارى ل 15 مليار دولار    سعر الذهب في مصر اليوم الأحد 10-8-2025 مع بداية التعاملات    موقف مثير للجدل من حسام حسن في مباراة الأهلي ومودرن سبورت (فيديو)    مواعيد مباريات اليوم الأحد والقنوات الناقلة.. ليفربول والدوري المصري    النصر السعودي يعلن التعاقد مع لاعب برشلونة    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة    الأرصاد الجوية : ارتفاع فى درجات الحرارة بكافة الأنحاء والعظمى بالقاهرة 38 درجة    مصرع شاب وإصابة آخر في حادث انقلاب سيارة في سوهاج    شكاوى من انقطاع التيار عن قرى بدير مواس وسمالوط بالمنيا وكفر الشيخ    النائب العام يوفد 41 عضوًا إلى أوروبا والصين لتلقي دورات متخصصة    في السابعة مساء اليوم .. آخر موعد لتسجيل الرغبات بتنسيق المرحلة الثانية للقبول بالجامعات    أسعار الأسماك في شمال سيناء اليوم الأحد 10 أغسطس 2025    إعلام: إطلاق نار بالقرب من سجن تحتجز فيه مساعدة جيفري إبستين    حظك اليوم الأحد 10 أغسطس 2025 وتوقعات الأبراج    بعد غلق التسجيل اليوم.. متى تعلن نتيجة تنسيق المرحلة الثانية 2025؟    قروض السلع المعمرة بفائدة 26%.. البنوك تتدخل لتخفيف أعباء الصيف    تعرف على أعلى شهادة ادخار في البنوك المصرية    الجيش اللبناني يغلق بعض المداخل المؤدية للضاحية الجنوبية    ريبيرو: كنا الأفضل في الشوط الثاني.. والتعادل أمام مودرن سبورت نتيجة طبيعية    أمير هشام: الأهلي ظهر بشكل عشوائي أمام مودرن.. وأخطاء ريبيرو وراء التعادل    وزير العمل يزف بشرى سارة للمصريين العاملين بالسعودية: لدينا تطبيق لحل المشاكل فورًا (فيديو)    «بيت التمويل الكويتى- مصر» يطلق المدفوعات اللحظية عبر الإنترنت والموبايل البنكي    لهذا السبب.... هشام جمال يتصدر تريند جوجل    التفاصيل الكاملة ل لقاء اشرف زكي مع شعبة الإخراج بنقابة المهن التمثيلية    محمود العزازي يرد على تامر عبدالمنعم: «وعهد الله ما حصل» (تفاصيل)    شيخ الأزهر يلتقي الطلاب الوافدين الدارسين بمدرسة «الإمام الطيب»    دعاء صلاة الفجر.. أفضل ما يقال في هذا الوقت المبارك    من غير جراحة.. 5 خطوات فعالة للعلاج من سلس البول    يعاني ولا يستطيع التعبير.. كيف يمكن لك حماية حيوانك الأليف خلال ارتفاع درجات الحرارة؟    دعاء الفجر يجلب التوفيق والبركة في الرزق والعمر والعمل    مصدر طبي بالمنيا ينفي الشائعات حول إصابة سيدة دلجا بفيروس غامض    مصرع وإصابة طفلين سقطت عليهما بلكونة منزل بكفر الدوار بالبحيرة    وزير العمل: سأعاقب صاحب العمل الذي لا يبرم عقدا مع العامل بتحويل العقد إلى دائم    طلاب مدرسة الإمام الطيب: لقاء شيخ الأزهر خير دافع لنا لمواصلة التفوق.. ونصائحه ستظل نبراسا يضيء لنا الطريق    القبض على بلوجر في دمياط بتهمة التعدي على قيم المجتمع    حكيمي: أستحق حصد الكرة الذهبية.. وتحقيق الإحصائيات كمدافع أصعب كثيرا    جنايات مستأنف إرهاب تنظر مرافعة «الخلية الإعلامية».. اليوم    ترامب يعين «تامي بروس» نائبة لممثل أمريكا في الأمم المتحدة    أندريه زكي يفتتح مبنى الكنيسة الإنجيلية بنزلة أسمنت في المنيا    منها محل كشري شهير.. تفاصيل حريق بمحيط المؤسسة فى شبرا الخيمة -صور    يسري جبر: "الباء" ليس القدرة المالية والبدنية فقط للزواج    "حب من طرف واحد ".. زوجة النني الثانية توجه له رسالة لهذا السبب    أمين الجامعات الخاصة: عملية القبول في الجامعات الأهلية والخاصة تتم بتنسيق مركزي    ما تأثير ممارسة النشاط البدني على مرضى باركنسون؟    أفضل وصفات لعلاج حرقان المعدة بعد الأكل    أفضل طرق لتخزين البطاطس وضمان بقائها طازجة لفترة أطول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شبرا
»إسكندرية صغير ة في القاهرة«
نشر في أخبار الأدب يوم 10 - 05 - 2014

كنا في شبرا نعرف البيوت بأسماء أصحابها، ولم نكن نهتم كثيرًا بمسألة ترقيم المنازل. فهذه بالنسبة لأهالي شبرا بدعة حكومية تم اختراعها لأسبابٍ إدارية. وكنت أسمع وأنا صغير في ستينات القرن الماضي، جدي وجدتي يرددون عبارة "البيت اللي بعد بيت الخواجات"، وكنت أسأل جدي ولكن أين الخواجات؟ كانت الإجابة دائمًا قصيرة: "كان فيه خواجات". وكنت بفضول الطفل وربما بفضول مشروع مؤرخ صغير أُلح علي جدي في السؤال وراحوا فين؟ الإجابة أيضًا قصيرة مع التفاتة من جدي يمينًا وشمالاً: "رجعوا بلدهم"، ولا تُشفي هذه الإجابة غليل هذا الطفل الذي جُبل علي التساؤل، وليه رجعوا؟ وفين بلدهم؟ وهي مصر مش بلدهم؟!
وكان جدي يتحاشي الاستزادة في الإجابة، ويستمر في إلقاء السلام علي جيراننا، أثناء سيرنا في الطريق.
عندما كبرت أدركت بعد ذلك سر تحاشي جدي الاستمرار في هذا الموضوع الشائك، لاسيما ونحن سائرين في الطريق. إن فترة الستينات تمثل ذروة الصراع بين مصر والغرب بشكلٍ عام، وتصاعد موجات العداء المتبادلة. الغرب ينظر إلي عبد الناصر ونظامه علي أنه نظام فاشستي مُعادي للآخر، لاسيما مع اعتناق ناصر للقومية العربية. وعبد الناصر، وربما مصر كلها، تنظر بشكٍ وريبة إلي كل ما هو غربي علي أنه "استعماري".
هكذا كان جدي متخوفًا من الاستمرار في الحديث عن هذا الموضوع، حتي لا يتناثر الحديث، ويسمعه "بتوع الاتحاد الاشتراكي" أو "بتوع المخابرات". وهكذا حُرمت من الاستزادة من جدي حول هذا الموضوع، وهو الذي كان حريصًا دائمًا علي تلقيني كل خبرته في الحياة.
ولكن عندما كبرت وأصبح التاريخ حرفتي، عاد إلي ذهني من جديد تساؤلات هذا الطفل الصغير، ولكن أين جدي ليحكي لي خبرته؟ وحتي أبي لا يكاد الآن، وهو في شيخوخته، يتذكر ماذا فطر هذا الصباح.
وكان عليّ الرجوع إلي مصادري التقليدية كمؤرخ، وهي المصادر المكتوبة، فضلاً عن التاريخ الشفاهي. وأدركت لماذا جذبت شبرا في النصف الأول من القرن العشرين الطبقة الوسطي من الأجانب الذين هاجر معظمهم إليها من شرق البحر المتوسط. فكما جذبت شبرا انتباه الطبقة الوسطي المصرية للسكن فيها وتحويل هذه المزارع والحدائق إلي عمارات حديثة، كان نفس الحال مع أبناء نفس الطبقة من الأجانب، لاسيما مع انتشار العديد من أديرة وكنائس المبشرين الكاثوليك بها. ساعد علي ذلك شق خط ترام شبرا، الذي ربط حي شبرا، كحي سكني، بوسط المدينة كحي تجاري وإداري، يعمل به معظم الأجانب من سكان شبرا.
وكنت أحكي لبعض أصدقائي الصحفيين عن شبرا والعصر الذهبي للأجانب في شبرا، وأضرب مثلاً علي ذلك بالفنانة العالمية بنت شبرا داليدا، ذات الأصل الإيطالي. وأخبرني صديقي هذا بأن المستشار الثقافي اليوناني في السفارة اليونانية في القاهرة من شبرا.
وعندما التقيت به وحدثني بالمصري، يني ميخائيلدس، قلت له أنت "شبراوي يوناني" وليس "يوناني شبراوي" تأكيدًا علي مصريته الواضحة في اللهجة وحتي في الملامح. وأكد لي أنه درس في مدارس شبرا في الستينات، قبل أن يعود إلي اليونان بعد ذلك. وحكي لي عن بقايا الجالية اليونانية "الشبراوية" التي عادت إلي اليونان بعد ذلك. وذكر لي معلومات عن النادي اليوناني الرياضي الذي تم إنشاءه في أخر شارع شبرا، وما يزال موجود حتي الآن.
قلت له: لا يوجد نادي يوناني الآن؟
قال: هل تعرف نادي شركة اسكو الرياضي؟
قلت: نعم، قال: هذا كان النادي اليوناني الرياضي.
ودفعني ذلك للبحث عن المزيد من مظاهر الوجود اليوناني في شبرا، حيث وجدت بعض الصور والمعلومات عن شركة جناكليس للسجائر في شبرا، وهي شركة يونانية.
كما ظهر لي وجود العديد من الشوام في شبرا في النصف الأول من القرن العشرين، ولعل نموذج المخرج الشهير "هنري بركات" خير دليل علي ذلك.
وتعمقت لديّ ظاهرة "عالمية شبرا" أو "بحرمتوسطية شبرا" أو "اسكندرية صغيرة في القاهرة" عندما قرأت أصداء هذه الظاهرة في الأدب المصري، سواء الرواية أو الشعر.
عالمية شبرا في الأدب المصري:
إن قصة الأجانب مع شبرا، قصة ألهبت الوجدان المصري، وألقت بظلالها علي الأدب المصري المعاصر. وهناك العديد من الروايات التي تناولت هذه الظاهرة، وسيلاحظ القارئ حرص الكُتاب علي ذكر اسم شبرا كعنوان للرواية.
من أهم هؤلاء الكُتاب الصحفي والروائي الشهير "فتحي غانم" وروايته "بنت من شبرا".
إن "بنت" فتحي غانم هنا أو في الحقيقة "بنت من شبرا" هي الإيطالية ماريا ساندرو، التي يصفها الكاتب بأنها كانت واحدة من أجمل بنات شبرا في الثلاثينات من القرن العشرين. ومن خلال ماريا يرصد الكاتب صورة مجتمع الأجانب في شبرا في تلك الفترة، لاسيما الجاليتين الإيطالية واليونانية.
ووفقًا للرواية كان معظم أبناء الجاليتين يعملون آنذاك في الفنادق أو المطاعم كرؤساء خدم أو سعاة أو طهاة. كما وجد العديد من الحرفيين المهرة، حيث عمل بعضهم في ورش صيانة السيارات، أو دكاكين بيع وصيانة الأجهزة الكهربائية. كما عمل البعض الأخر في تفصيل أزياء الرجال والنساء. كما عملت العديد من فتيات الجاليتين كبائعات في المحلات الكبري أو صالونات التجميل.
ومن هؤلاء ماريا ساندرو التي كانت تسكن شبرا لكنها تعمل بائعة في قسم العطور في إحدي المحلات الكبري في العتبة بوسط المدينة. وكانت ماريا تذهب في يوم الأحد إلي كنيسة سانت تريزا الشهيرة في شبرا، ثم تقضي بقية اليوم في النادي الإيطالي بحدائقه الواسعة. وكان والد ماريا هو "كوافير" الأسرة المالكة.
ويرسم المؤلف صورة لأحلام الجالية الإيطالية في شبرا آنذاك، هذه الجالية التي تنتمي إلي الطبقة الوسطي الصغيرة. إذ انحاز معظم أبناء هذه الجالية إلي الدوتشي موسوليني، حيث نظر إليه هؤلاء علي أنه مثلاً أعلي لمجد روما:
"أنه في يوم قريب سوف يدخل الدوتشي مصر غازيًا راكبًا حصانه الأبيض، ليحكم مصر كما حكمها يوليوس قيصر أمام كليوباتره".
ويرصد المؤلف كيف عرف شارع شبرا ظاهرة ارتداء الشباب الإيطالي القمصان السوداء "رمز الفاشية" واستعراضهم لذلك بالدراجات البخارية. هذه الظاهرة التي أكدها لنا الأستاذ مرسي سعد االدين، رئيس مصلحة الاستعلامات، ابن شبرا في الأربعينات.
والمثير في القصة أن ماريا الإيطالية الكاثوليكية سوف تتزوج من كريم صفوان المصري المسلم، وكان هذا تعبيرًا عن روح التسامح الكبير الذي عرفته شبرا آنذاك. تقول ماريا:
"لم تتغير مشاعري الكاثوليكية عندما تزوجت كريم. لأن الدين واحد والرب واحد. ولا أريد الآن الاعتراف في الكنيسة علي كرسي الاعتراف، بل الاعتراف إلي البشر... كل البشر".
لكن المثير أن قصة ماريا وزواجها من كريم والتي اعتبرت مثالاً علي التسامح الإنساني والديني الذي نعمت به شبرا، ستنتهي نهاية درامية. إذ سينتهي العمر بماريا بعيدًا عن شبرا، في حي الزمالك الذي انتقلت إليه بعد ذلك، إذ فقد حي شبرا تراثه السابق كحي مختلط، وسادت فيه طبائع ريفية حادة.
وبينما قدمت ماريا حياتها كمثالاً للتعايش بين الأجناس والأديان، سينتهي الحال بحفيدها إلي التطرف الديني. حيث سيلقي القبض عليه ضمن التنظيمات الإرهابية التي انتشرت في مصر في الثمانينات.
ولن يقف الأمر عند ذلك الحد في تقديم المثل ونقيضه، فمع تحول قصة "بنت من شبرا" إلي مسلسل تليفزيوني في التسعينات، ستندلع أزمة دينية كادت أن توقف عرض المسلسل.
إذ اعترضت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية علي عرض المسلسل، حيث رأت فيه تشجيعًا علي الزواج المختلط بين مسيحيات ومسلمين، هذا الأمر الذي طالما أثار العديد من الزوابع طيلة فترة التسعينات. وعرفت الصحافة المصرية جدلاً طويلاً حول ذلك المسلسل، وحول الفن والحرية، أو الفن واحترام المقدسات. والغريب أن بطلة القصة والمسلسل كانت إيطالية، ولم تكن مصرية ولكنه في الحقيقة تعبيرًا عن حالة الاحتقان الطائفي في مصر، وكيف فقدنا روح التسامح، روح شبرا.
نعيم صبري "شبرا":
الرواية الثانية التي اخترناها هنا هي رواية شبرا لنعيم صبري. بينما تغطي رواية فتحي غانم أساسًا فترة الأربعينات في شبرا، فإن رواية نعيم صبري تغطي فترة الخمسينات الهامة. إذ ترصد الرواية ظاهرة هجرة الأجانب من شبرا، ومن مصر بشكلٍ عام. وتشكل الرواية مرثية جميلة لكيفية فقدان شبرا لظاهرة من أهم الظواهر التي عرفتها وهي "الإخاء".
صدرت هذه الرواية في طبعتها الأولي في عام 2000، والجدير بالملاحظة أن المؤلف يفتتح روايته بالعديد من الحكم والآيات الدينية التي تدعو إلي المحبة والإخاء. فمن التاريخ المصري القديم يختار عبارة من تعاليم بتاح حتب "كن باش الوجه مادمت حيًا"؛ ومن تعاليم أحد ملوك الأسرة العاشرة في مصر القديمة يختار نصيحة "لا تتول العقاب بنفسك فإن ذلك لا يرفعك"؛ ويختار من مقولات السيد المسيح "لا تدينوا لكي لا تدانوا"؛ ومن أحاديث الرسول محمد بن عبد الله يختار مقولة "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه".
إن هذه الافتتاحية في الحقيقة تعبر عن روح شبرا في ذلك العصر، هذا الحي الذي استوعب الجميع. هذه الفكرة الجميلة التي ينعيها نعيم صبري الآن قائلاً:
"في هذا العالم الرحب يقع حي شبرا بمدينة القاهرة بمصر المحروسة بأقصي الشمال من القارة الأفريقية المترامية، عند لقائها مع قارة آسيا، والبحرين الأبيض والأحمر.
حي محدود في مدينة تاريخية عريقة، لكنه يمتلك رحابة متميزة من نوع خاص، رحابة الصدر... يتحدثون الآن عن الآخر، وقبول الآخر، أي أخر. لم يكن الآخر ذا وجود من الأساس، لم يكن معني مدركًا في الوعي الجمعي... لا يهم من تكون؛ من أي الأعراق... من أي الأديان؛ بأي لغة تتكلم. المهم أنك موجود، تعيش في حي شبرا آمنًا مطمئنًا. تولد تشب، تحب وتتزوج، تنجب الذرية، تربي الأبناء، يشب الأبناء ويعاودون الدورة، ثم ترحل في الأجل المحتوم".
وتكاد هذه الرواية أن تصبح سيرة شخصية للمؤلف، فهو في الحقيقة "شبراوي"، وفي خطوة أدبية جريئة غير معروفة في الرواية العربية، يرسم نعيم صبري "كروكي" رسم تخطيطي للبناية التي كان يعيش فيها.
ففي الدور الأرضي يسكن سعيد زياد "أبو مازن" الفلسطيني وأسرته، وبجانبه تسكن مدام أنوش الأرمنية وأسرتها، وفي الدور الأول شقة فهمي أفندي المصري، وبجانبه شقة مدام هيلينا اليونانية وأسرتها، وفي الدور الثاني شقة الست بطة وعائلتها القبطية، وكذلك بجانبها شقة الحاجة فريدة المصرية.
أما في الدور الثالث فتقع شقة ماري خوري وأبنائها وهي من أصل لبناني ماروني، وبجانبها شقة عايدة رزق الله القبطية، وتحتل شقة ستاسيا ونيكوس اليونانيين السطح وبجانبها مسكن عم سيد البواب وأسرته. هكذا شكلت هذه البناية تجمعًا إنسانيًا لشرق البحر المتوسط. هذا التجمع الذي ترك بصماته علي الحياة الاجتماعية في شبرا، وحتي علي مستوي الحياة الاقتصادية، من خلال أسماء المحلات في شبرا، فضلاً عن تزاوج اللغات التي تُكتَب بها لافتات هذه المحلات.
ويذكرنا نعيم صبري بمفهوم "المصرية" عندما كانت ثقافة أكثر منها عرقًا أو جنسًا. إذ يروي كيف احتفل سكان العمارة جميعًا بعيد شم النسيم "عيد الربيع" عند المصري القديم:
"استيقظ الجميع علي رائحة البصل. شم النسيم، شم البصل في شم النسيم عادة مصرية طبعًا، قد تكون بعض الأجيال الجديدة قد تناستها أو أهملتها... اتفقت الجماعة علي الذهاب في رحلة نيلية إلي القناطر الخيرية. الست بطة والحاجة فريدة وأم مازن وستاسيا والخالة فاطمة والأولاد. الست ماري خوري لا تحب الزحام وتفضل هي والست عايدة وسيلفيا وأسرتها الذهاب مبكرًا إلي أحد كازينوهات النيل، ثم العودة إلي البيت قبل الظهر للعب بارتيتة كونكان مع المتاح من الصديقات... نزلت الجماعة في القناطر وانطلقت تبحث عن بقعة ظليلة في الحدائق لتحط رحالها. أخرجوا الفسيخ والملوحة والرنجة والبيض الملون وتحلقوا جميعًا لتناول وجبة شم النسيم الشهيرة".
ويصل الحنين إلي الماضي الجميل ذروته عند نعيم صبري عندما يُنهي روايته بقصيدة شعر عنوانها أيضًا "شبرا":
عنواني
شارع شبرا...
ولتتذكر
أن تكتب لي في الفرح وفي الأحزان
في شارع شبرا، كانت أيام
ومضت أيام
تتوالي في طيات الأعوام
وأكيد سوف تعود الأيام
***
لُولا بنتُ اليونان
باولو من روما، ساقي الحانْ
من أرمينيا، ألتونيانْ
صاحب أزهار البستانْ
عوني، من أرض الشامْ
الجَدةُ قالت لي
في كل مكان من أرجاء الدنيا
يوجد شارع شبرا
في كل مكان من أرجاء الوطن العربي
يوجد شارع شبرا
لا أدري ما سبب الفرحهْ
ورددت عليها مذهولاً
شبرا!... دنيا!
واصلتُ اللَّعب مع الأقرانْ
لولا، يرغو، جابي، عوني
أيام تمضي... أيام
أحببت صديقي سامي من أرض الشامْ
لم أعرف ساعتها من سوريّا، يافا أو لبنانْ
وتزاملنا طيلة أعوام دراستنا
منذ اليوم الأول حيث الخوف من المجهول
وحتي الآنْ،
كنا نبكي غربة ذاك العالم
...
لا ترحلْ... فالغربة مثل السوطْ
تجلد فينا كل الأشياءْ
هل ترحل حقًا؟...
...
إن كان رحيلك محتومًا...
لا تنسَ
أن تكتب لي...
في فرحك أو في أحزانك
ولتتذكر
عنواني شارع شبرا،
حيفا،
لبنانْ
داليدا: بنت من شبرا
احتلت الجالية الايطالية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين أهمية خاصة في المجتمع المصري. إذ يري البعض أن هذه الجالية تأتي في المرتبة الثانية بعد الجالية اليونانية من حيث التعداد، وربما أيضًا من حيث التأثير الاجتماعي والثقافي.
وبطبيعة الحال من الصعب الالمام بهذا الأمر في عجالة سريعة، وربما من الأجدي استعراض بعض النماذج الايطالية المهمة والمؤثرة في هذا الشأن. وهنا ستتدخل ذاتية المؤرخ في الاختيار، وقد أصبح ذلك الآن من الأمور المحمودة في مجال الدراسات التاريخية، إذ يصبح المؤرخ في هذه الحالة دارس ومدروس في الوقت نفسه.
من هنا أفضل الحديث عن داليدا: بنت شبرا، وهنا تتضح ذاتية المؤرخ في الاختيا، إذ ينتمي هو نفسه لهذا الحي العريق شبرا، هذا الحي الذي أكاد من الانتهاء من اعداد دراسة تاريخية عنه.
وُلِّدت داليدا "يولاندا كريستينا جيجليوتي" في 17 يناير عام 1933 في حي شبرا بالقاهرة، هذا الحي الذي أصبح في ذلك الوقت حي "كوزمبوليتاني"، حي المهاجرين من شرق البحر المتوسط، وأيضًا حي المهاجرين المصريين من الريف إلي العاصمة.
ولا أدل علي ذلك من ميلاد والدي الذي أتي والده مهاجرًا من الدلتا في العام التالي، 1934، في نفس الحي وعلي بعد حوالي 200 متر من منزل داليدا، إذ يقع منزل داليدا في 11 شارع خماروية المتفرع من شارع شبرا. ولم تكن ولادة داليدا في هذا المنزل بالصدفة، بل كانت تعبيرًا عن الوجود الايطالي في هذا الحي، إذ يقع هذا المنزل علي بعد حوالي مائة متر من كنيسة سانت تريزا "الكاثولكية"، هذه الكنيسة المباركة الشهيرة التي جذبت محبة المسلمين والمسيحيين معًا، المصريين والأجانب أيضًا؛ وكانت هذه الكنيسة من أهم الكنائس المفضلة للجالية الايطالية في القاهرة. كما يبعد منزل داليدا حوالي 200 متر عن المدرسة الايطالية الشهيرة الواقعة علي شارع شبرا، هذه المدرسة التي تحولت أثناء الحرب العالمية الثانية إلي مدرسة فيكتوريا، ثم تحولت بعد ذلك إلي أول مقر لكلية الآداب بجامعة عين شمس، ثم أصبحت الآن مقرًا لكلية الهندسة.
وفي تلك الأثناء، أي في نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين، كان الشباب الايطالي "الفاشيستي" يقوم باستعراضات علي طول شارع شبرا الشهير، وكأنه أحد شوارع روما، تعبيرًا عن ولائه لموسوليني آنذاك.
ما يهمنا هنا هو بيان الطابع "المصري" لهذه الجالية، في هذا الحي الصغير الهادئ آنذاك. إذ وُلِّدت داليدا من أبوين ايطاليِّ الأصل مولودين أيضًا في مصر، فقد هاجر أجدادها إلي مصر في مطلع القرن العشرين، مثلهم مثل العديد من أبناء الجالية الايطالية في مصر.
ولا أدل علي انخراط داليدا والجالية الايطالية في الحياة المصرية من تقدم داليدا لمسابقة "Miss Egypt" ملكة جمال مصر، حيث تم اختيارها بالفعل ملكة لجمال مصر في عام 1954، ولم يقُل أحد يومها أن داليدا ليست مصرية؟!
وبدأت داليدا العمل في السينما المصرية، ولعل أهم أفلامها هو فيلم "سيجارة وكأس" الذي قامت بتمثيله في عام 1954. ولكنها سترحل بعد ذلك إلي فرنسا، لتنطلق بنت شبرا "المصرية الايطالية" إلي سماء العالمية لتصبح داليدا النجمة الشهيرة، لتعود بعد ذلك إلي القاهرة لتقوم ببطولة فيلم "اليوم السادس" مع المخرج المصري الشهير يوسف شاهين، وتقوم داليدا بزيارة منزلها القديم في شبرا، كما تغني لطفولتها وشبابها في شبرا وفي مصر بشكلٍ عام. ولهذا وصف أحمد فؤاد نجم الشاعر الشعبي الشهير داليدا قائلاً:
مصرية ومن مواليد شبرا
من تحت نفقها ومجاريها
إن سيرة داليدا توضح لنا المفهوم الحقيقي للمصرية في النصف الأول من القرن العشرين، ألا وهو "المصرية" كثقافة؛ كما تدل علي عمق العلاقات بين شعوب البحر المتوسط، حتي في ذروة المد الاستعماري آنذاك.
هنري بركات
ينتمي بركات لأسرة شامية فأمه من عائلة "بولاد" من كسارة بلبنان، أما أبوه فهو من اصل سوري من دمشق ولكن معظم أهله في لبنان.
هاجرت عائلة بركات إلي مصر في عام 1860 وهذا العام مرتبط بالحوادث الطائفية التي حدثت في بلاد الشام بين أتباع المذاهب والديانات المختلفة والتي علي إثرها هاجر الكثير من الشوام إلي مصر التي كانت بمثابة واحة الأمان والتسامح في المنطقة في تلك الفترة المضطربة في تاريخ الشرق الأوسط.
تختلف المصادر في تحديد سنة ميلاد هنري بركات ما بين عامي 1911 أو 1914، علي أية حال الثابت أنه ولد في 11 يونيو بمنطقة جزيرة بدران بحي شبرا. وحصل علي التوجيهية في العام 1934، وكان الأول علي مدرسته، فعين مدرسًا بها مكافأة له. والتحق بركات بكلية الحقوق الفرنسية تنفيذًا لوصية والده وعمل بعد تخرجه بمهنة المحاماة لمدة شهر واحد، لكنه لم يستطع الاستمرار في هذه المهنة، وتركها وسافر إلي فرنسا ليدرس فن السينما. وقضي هناك نحو 8 أشهر تعلم خلالها بعض فنون الإخراج السينمائي، عاد بعدها إلي مصر محاولاً تحقيق أحلامه السينمائية.
وعندما عاد هنري بركات إلي مصر كانت عزيزة أمير تستعد لإنتاج فيلم بعنوان «الورثة» من إخراج استيفان روستي، وطلبت منه العمل مساعد مخرج مقابل 15 جنيها، وذلك في العام 1939. ووافق بركات وظل يعمل مساعداً 3 سنوات لأحمد بدرخان، وحسين فوزي، واستيفان روستي. ثم بدأ في إخراج أفلامه الخاصة التي أصبحت من كلاسكيات السينما المصرية ومنها أفلام: دعاء الكروان؛ في بيتنا رجل؛ الباب المفتوح وليلة القبض علي فاطمة.
وقد عُرضت أفلام بركات في العديد من المهرجانات الدولية وحصلت علي عدد من الجوائز ومنها حصول فيلم "في بيتنا رجل" علي جائزة أحسن فيلم في مهرجان نيودلهي عام 1961 كما حصل فيلم " الباب المفتوح " علي جائزة أحسن فيلم وجائزة أحسن تمثيل للفنانة " فاتن حمامة " في مهرجان " كان " عام 1965 ، وأشادت به الصحف الفرنسية .
أما في مصر فقد كرمته الدولة عام 1996 بمنحه جائزة الدولة التقديرية تقديرًا لعطائه وإبداعه المتميز في مجال السينما. وتوفي هنري بركات في 26 مايو 1997


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.