احتلت الجالية الإيطالية فى مصر فى النصف الأول من القرن العشرين أهمية خاصة فى المجتمع المصرى، إذ يرى البعض أن هذه الجالية تأتى فى المرتبة الثانية بعد الجالية اليونانية من حيث التعداد، وربما أيضا من حيث التأثير الاجتماعى والثقافى. وبطبيعة الحال من الصعب الإلمام بهذا الأمر فى عجالة سريعة، وربما من الأجدى استعراض بعض النماذج الإيطالية المهمة والمؤثرة فى هذا الشأن. وهنا ستتدخل ذاتية المؤرخ فى الاختيار، وقد أصبح ذلك الآن من الأمور المحمودة فى مجال الدراسات التاريخية، إذ يصبح المؤرخ فى هذه الحالة دارسا ومدروسا فى الوقت نفسه. من هنا أفضل الحديث عن داليدا: بنت شبرا، وهنا تتضح ذاتية المؤرخ فى الاختيار، إذ ينتمى هو نفسه لهذا الحى العريق شبرا، هذا الحى الذى أكاد الانتهاء من إعداد دراسة تاريخية عنه. وُلدت داليدا «يولاندا كريستينا جيجليوتى» فى 17 يناير عام 1933 فى حى شبرا بالقاهرة، هذا الحى الذى أصبح فى ذلك الوقت حى «كوزمبوليتانى»، حى المهاجرين من شرق البحر المتوسط، وأيضا حى المهاجرين المصريين من الريف إلى العاصمة. ولا أدل على ذلك من ميلاد والدى الذى أتى والده مهاجرا من الدلتا فى العام التالى، 1934، فى نفس الحى وعلى بعد حوالى 200 متر من منزل داليدا، إذ يقع منزل داليدا فى 11 شارع خمارويه المتفرع من شارع شبرا. ولم تكن ولادة داليدا فى هذا المنزل بالمصادفة، بل كانت تعبيرا عن الوجود الإيطالى فى هذا الحى، إذ يقع هذا المنزل على بعد حوالى مائة متر من كنيسة سانت تريزا «الكاثوليكية»، هذه الكنيسة المباركة الشهيرة التى جذبت محبة المسلمين والمسيحيين معا، والمصريين والأجانب أيضا. وكانت هذه الكنيسة من أهم الكنائس المفضلة للجالية الإيطالية فى القاهرة. كما يبعد منزل داليدا حوالى 200 متر عن المدرسة الإيطالية الشهيرة الواقعة على شارع شبرا، هذه المدرسة التى تحولت أثناء الحرب العالمية الثانية إلى مدرسة فيكتوريا، ثم تحولت بعد ذلك إلى أول مقر لكلية الآداب بجامعة عين شمس، ثم أصبحت الآن مقرا لكلية الهندسة. وفى تلك الأثناء، أى فى نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين، كان الشباب الإيطالى «الفاشيستى» يقوم باستعراضات على طول شارع شبرا الشهير، وكأنه أحد شوارع روما، تعبيرا عن ولائه لموسولينى آنذاك. ما يهمنا هنا هو بيان الطابع «المصرى» لهذه الجالية، فى هذا الحى الصغير الهادئ آنذاك. إذ وُلدت داليدا من أبوين إيطالىِّ الأصل مولودين أيضا فى مصر، فقد هاجر أجدادها إلى مصر فى مطلع القرن العشرين، مثلهم مثل العديد من أبناء الجالية الإيطالية فى مصر. ولا أدل على انخراط داليدا والجالية الإيطالية فى الحياة المصرية من تقدم داليدا لمسابقة «Miss Egypt» ملكة جمال مصر، حيث تم اختيارها بالفعل ملكة لجمال مصر فى عام 1954، ولم يقُل أحد يومها أن داليدا ليست مصرية! وبدأت داليدا العمل فى السينما المصرية، ولعل أهم أفلامها هو فيلم «سيجارة وكأس» الذى قامت بتمثيله فى عام 1954. ولكنها سترحل بعد ذلك إلى فرنسا، لتنطلق بنت شبرا «المصرية الإيطالية» إلى سماء العالمية لتصبح داليدا النجمة الشهيرة، لتعود بعد ذلك إلى القاهرة لتقوم ببطولة فيلم «اليوم السادس» مع المخرج المصرى الشهير يوسف شاهين، وتقوم داليدا بزيارة منزلها القديم فى شبرا، كما تغنى لطفولتها وشبابها فى شبرا وفى مصر بشكل عام. ولهذا وصف أحمد فؤاد نجم الشاعر الشعبى الشهير داليدا قائلا: مصرية ومن مواليد شبرا من تحت نفقها ومجاريها إن سيرة داليدا توضح لنا المفهوم الحقيقى للمصرية فى النصف الأول من القرن العشرين، ألا وهو «المصرية» كثقافة، كما تدل على عمق العلاقات بين شعوب البحر المتوسط، حتى فى ذروة المد الاستعمارى آنذاك.