كتب لى «عزيزتى سناء» في رسالة مفتوحة للنشر علي صفحات الأهرام فقامت الدنيا من حولى ولم تقعد، وتعقدت بى المسيرة الأهرامية بأكثر مما عهدته وتجاوزته في نوعية مطباتها، ونقاوة مصائدها، ودقة تصويب سهامها، وشبكات شللها، فكيف لى أن أكون عزيزته ذلك الضيف الدخيل القادم علي رأس معسكر الأعداء فى التركيبة الأهرامية المتشطرة داخل الخواء المتخلف الذى تركه الأستاذ هيكل من بعد ذهابه.. وقتها في عام 75 كان هناك معسكران وجبهتان وقلعتان في برج الدور الثانى من المؤسسة العريقة.. على اليد اليمنى وإنت داخل مكتب الأستاذ على حمدى الجمال رئيس التحرير الأنيق هاوى العزف على الكمان الحريص على دقة موعده مع حكيم الأسنان، والذى صار بحكم وضعه الجديد صاحب الكلمة العليا والقول الفصل، والمحرك لجميع المفاصل والأبواب والمسارات والرحلات والمكافآت والمكاتب الخارجية والمحافظات والأعمدة والأركان والأبناط وملاحق الإعلانات وصفحات المبوبة والوفيات ودوران الماكينات الذى لم يكتب اسمه كرئيس للتحرير في ترويسة الأهرام بأمر من السادات إلا بعد مرور شهور عديدة فى ترقب وعذابات مثلها عذابات تعترض طريقك لتشق إليه صفوفاً ودوائر لتلقى موافقة سيادته علي سؤالك ومذكرتك واقتراحك التى لا تأتيك منه منفردا أو مباشرة بل من خلال رأى جوقة الحواريين المقيمين فوق فوتيهات الراحة من حوله وكأنه بيتهم ومطرحهم، لتخرج من عنده وقد شيعك تعليق لابد وأن تطبق أذنيك عن سماعه مكتملا، أو تتجاهله منذ البداية حتى لا تتصاعد الدماء إلى طاسة نافوخك فتستدير عائدا إلى مصير المندفعين اللاعقلانيين في الاتجاه المعاكس... هذا بينما كل شيء هادئ في الميدان الغربى الذى يشغله مكتب رئيس مجلس الإدارة الجديد الأستاذ إحسان عبدالقدوس المقدر له في تلك الفترة الأهرامية بالغة الحساسية والتى لم تدم سوى عاما واحدا التحجيم والتقليص والتهميش والتشفير والتنحية وحجب الأوراق وتضليل الدوسيهات وسحب الإمضاءات والاكتفاء في السلام بالتمتمة، وفي التلبية بالتغاضى، وحسك عينك تبعا لأوامر محلقة فى الأجواء عندما تلقاه في ممر أو أمام الأسانسير أن تنجر معه في كلمتين أو تمشى معه خطوتين، أو تتركه يضع يده على كتفك بحكم مودة قديمة، أو يسمع عنه أنه قال لك إنه عايزك، أو أن تجلس إلى مديرة مكتبه نرمين القويسنى أسيرًا لحديثها الطلى، فتحية الأستاذ إحسان الموجبة من بعيد لبعيد حتى لا تقع في المحذور وتلتقط عين الرصد سلامك فيأكلون لحمك من قبل عظامك.. وسط هذا الجو المشحون الذى عشت فى مسيرتى الصحفية الطويلة من أمثاله عشرات، وليست سوى عناية المولي وحده التى احتفظت لى برقبتى من الذبح حتى الآن رغم تعرضى لرياح الرئاسات الملكية والاشتراكية والانفتاحية والموالية والعنكبوتية والانعزالية والاتكالية والأمنجية والمطبلاتية والثورجية والإخوانية والشيوعية والتقشفية وإن ظلت چينات الأهرام محتفظة إلى حد كبير بالنقاء اللهم إلا ما تعرض منها لعوامل التعرى.. فجأة أرسل لى الأستاذ إحسان يستدعينى لمكتبه ليعطينى مقاله الذى بدأه بعزيزتى سناء والذى يُلقى فيه أضواء كاشفة علي انعكاس فترة حكم عبدالناصر على النسيج الاجتماعى المصرى، وكيفية التزام الجميع بالمظهر الاشتراكى الخشن، وبعدم استعراض الأثرياء لمظاهر ترفهم تخوفاً من شبح التأميم، حتى أن نساء الطبقة الراقية أخفين مجوهراتهن الثمينة، وقطع فرائهن الباهظة، والفساتين السواريه السينييه عن الأنظار، وما أن رحل النظام الناصرى وأتى الانفتاح حتى تفتحت أكمام الورد وطلعت المرسيديسات من جراجاتها والسوليترات من خزائنها، وأضاءت كريستيلات الثريات التشيكى تتدلي طبقات من أسقف بهو حفلات القصور الوارفة، ورمح البكينى الساخن علي شاطئ المنتزه، وسافرت زوزو هانم للاستشفاء فى الكوت دازور وأتى «خوليو» ليغنى للبنات واختفت من الأفواه ذائقة «حنبني السد وصورة صورة صورة»... جلست أمامه أقرأ كلماته بينما يتلمس وقع انعكاساتها علي وجهى، فوجدنى أكثر سعادة باستهلالته «عزيزتى سناء» لأهرع من عنده لأسلم مواد صفحة الغد لمدير التحرير الأستاذ صلاح هلال بما فيها مقال إحسان، حيث ذهب يتأملنا طويلا أنا والمقال بإمعان، ولمّا لم يأت منه صدّ ولا رد عدت إلى بيتى في انتظار «عزيزتى سناء» مع صباح النشر، وفوجئت باختفائها بعدما أطاح هلال بالرأس.. ولمّا كان بمثل تصرفه الأخير قد بلغ معى مداه ذهبت للأستاذ الجمّال أتلمس عوناً ففوجئت به وطابعه الدماثة الوداعة قد انقلب في وجهى، بل استدار كلية بكرسيه ليعطينى ظهره صارخاً في اتجاه النافذة.. أنا.. إنت.. تطعنينى فى ظهرى.. أنا تدخلى له في غيابى ويقول لك كمان يا عزيزتى؟!!.. ولمّا لم تكن «عزيزتى» تلك لم تتعد ثلاثتنا أنا وإحسان وهلال فقد أدركت أن الهلال قد صار منجلا.. فذهبت أكتب استقالتى بسبب عزيزتى! إحسان عبدالقدوس.. مكثت بعيدة عنه وقريبة منه، وكم تمنيت أن أكون أحد أفراد أسرته الصحفية فى روزااليوسف وصباح الخير لأعيش بجوار صديقة العمر الكاتبة زينب صادق مناخ الفن والحرية والانطلاق والإبداع والبساطة وخفة الظل وعالم الكاريكاتير والابتكار والعفوية والجينز والبلوفر والكاجوال ولا أنام وچاهين ومفيد ومنير والبهجورى ورجائى ومديحة ونجاح وإحسان ورأس السنة يوم ميلاده في أول يناير 1919.. وربما أكون قد بعدت عنه بعدما اكتفيت منه بوجودى فى رحاب الأستاذ أحمد بهاء الدين ابن روزااليوسف وأمهما معاً.. بهاء وإحسان.. تمنيت العمل في سيرك إحسان الذى قال عن عمله فيه مديرًا أنه لا يختلف اختلافا كبيرا عن مهمة مدير دار صحفية، فواجبه الأول أن يحتفظ بروح المرح والنشاط في السيرك كله، وأن يترك كل شيء يسير علي طبيعته.. ألا يحاول أن يجعل من الأسد نعامة.. أو من الفيل فرخة.. أو من القرد غزالا.. أو من البلياتشو إمام مسجد، وهو في الوقت نفسه مضطر أن يروض هذه الوحوش حرصا علي حياة السيرك.. وحياة الجمهور، فيطرقع بالسوط أحياناً طرقعة في الهواء، وأحياناً يمد يده بقطعة سكر، وأحيانا يبكى ويستعطف حتى لا يفترسه الأسد، وكلهم في سيرك إحسان وحوش، أو على الأصح فى صدر كل منهم وحش اسمه الفن.. ويظل الحلم يراودنى في أن أكون إحدى بطلات ذلك السيرك الذي دخله الكثيرون وأصبحوا لامعين، وكثيرون أيضاً دخلوا ولم يصبحوا شيئا، فشعار مدير السيرك إحسان عبدالقدوس أنه إذا كنت فنانا.. باحثا سياسيا.. أو صحفيا.. أو كاتبا.. أو رساما.. فتعال.. لا تحادث أحدًا.. ولا تقل اسمك.. واجلس علي أحد مكاتب الدار.. وابدأ العمل.. ولن يهتم بك أحد.. كل ما هنالك أنه سيمر عليك نائب المدير العام وينظر إليك شذرًا.. فلا تأبه به!.. وبعدها قدم إنتاجك الذى سيعرفونك من خلاله.. وببساطة ستراه منشورا في الصفحة الأولي.. وببساطة ستجده ملقيا في سلة المهملات.. إذا كان يستحق سلة المهملات.. لقد كان إحسان من القيادات الصحفية القليلة والنادرة التى تؤمن بالمواهب الجديدة وتفتح أمامها أوسع الأبواب، ولو لم يكن لإحسان سوى هذا الدور في تاريخنا الصحفي المعاصر لاستحق أن يكون بهذا الدور من الخالدين، ولقد كان الكاتب القدير أحمد بهاء الدين أحد الذين فوجئوا بنشر مقالهم في الصفحة الأولى بعد تركه له على باب روزااليوسف عام 1950، ولم يكن يعرف إحسان ولا الأخير كان قد سمع به، لكنه فوجئ بالمقال كافتتاحية لأول عدد يصدر من المجلة بعد وصوله ليد إحسان ليقول بهاء: «إن هذا الموقف من إحسان قد وَفّرَ علىّ عشر سنوات من الكفاح الصحفى الشاق». وأبدًا لم يكن غريباً أن يكون إحسان محمد عبدالقدوس أحمد رضوان كاتبا فنانا له تأثيره البالغ في عصره وجيله من خلال قصصه ورواياته ومقالاته، بل كان الغريب أن يخرج إلى الحياة بلا موهبة ولا تأثير، فعامل الوراثة والتربية معاً كانا لابد وأن يخلقا منه فنانا كبيرا، فالأم فاطمة اليوسف كانت الممثلة الأولى في مصر والنجمة المتألقة التي أبكت جماهير عصرها في دور «غادة الكاميليا» وبعدها في عام 1925 تختلف البطلة مع صاحب فرقة رمسيس يوسف بك وهبى فتقرر الاعتزال والتفرغ لعالم الصحافة حيث لم يسبقها فيه من نساء عصرها سوى منيرة ثابت صاحبة مجلة «الأمل» النسائية.. كانت صديقة لأعظم رجال عصرها الذى يلتفون حولها ويعملون معها، ويكفي أن محررى الجيل الأول تحت إمرتها كانوا من كبار صناع الفكر والأدب والثقافة والصحافة في مصر والعالم العربى كله، من أمثال عباس العقاد ومحمود عزمى ومحمد التابعى.. هذا بينما يقول ابنها إحسان عنها: «كانت تخفى عنى كل ما يصيبها من نكبات، وحدث أن خسرت كل ما كانت تملك خلال الحرب فاضطرت إلى بيع سيارتها لتضطر إلى السير علي قدميها كل صباح ساعة كاملة من بيتها في الزيتون إلى سراى القبة لتركب الأوتوبيس الذى يوصلها إلي مكتبها لتقول لى إن الطبيب قد أوصاها بالسير الطويل محافظة علي صحتها حتى لا أدرى ولا أشاركها الهموم.. أمى فاطمة اليوسف التى صنعت منى رجلا كتبت لى خطاباً مفتوحاً بمناسبة توليتى رئاسة التحرير عند خروجى من السجن بسبب مقال لى بعنوان «هذا الرجل يجب أن يذهب» وكان ضد اللورد كيلرن المندوب السامى البريطانى بالقاهرة وأقوى رجل فى مصر وكنت وقتها فى الثالثة والعشرين.. كتبت لى أمى تقول فى خطاب مفتوح: ولدى رئيس التحرير.. عندما اشتغلت بالصحافة وأسست هذه المجلة كان عمرك خمس سنوات، وقد لا تتذكر أننى حملت العدد الأول ووضعته بين يديك الصغيرتين وقلت: هذا لك.. ومرت عشرون عاما قضيتها وأنا أرقب فى صبر نمو أصابعك حتى تستطيع أن تحمل القلم وتقدر الهدية التى كونتها بدمى وأعصابى خلال سنين طويلة لتكون اليوم لك.. ووصيتى مهما تبلغ من شهرة ألا تدع الغرور يداخلك، وحافظ على صحتك فبغيرها لن تكون شيئا، ومهما تقدمت بك السن لا تدع الشيخوخة تطغى على تفكيرك وتحلى حتى آخر العمر بحماسة الشباب، وحاسب ضميرك قبل أن تحاسب جيبك.. وثق أن قلبى معك فالجأ إلىّ دائما.. وأخيرًا.. دع أمك تسترح.. ولو قليلا.. تلك أمه فاطمة اليوسف.. أما والده فهو الفنان المهندس محمد عبدالقدوس عاشق التمثيل هاجر الهندسة للعمل مع عزيز عيد ونجيب الريحانى وأعلام الفن في جيله، وأبدًا لا يُنسى دوره المميز مع محمد عبدالوهاب في «الوردة البيضاء» عام 1933 ولا أبوته للبنى عبدالعزيز فى «أنا حرة» ولا ينسى إحسان موهبة والده في كتابة القصص والمسرحيات مثل «نادر شاه» و«معروف الاسكافى» ومسرحية «إحسان بيه» التى أهداها له في عيد ميلاده الثامن، وفي محاولة تقليد والديه في التمثيل بدوره كتب تمثيلية صغيرة وهو فى العاشرة وجمع أولاد العمة والحارة «حارة نصير بالعباسية»: «ونزلنا للبدروم الذى اخترته مسرحاً ووقفت فوق الكرسى أمثل الدور، ولكن حدث لى موقف غريب فقد كان الدور يستدعى منى تمثيل البكاء فبدأته ولم أستطع التوقف أبدًا، ومن يومها أخاف شدة الانفعال، وأصبحت لا أستطيع مواجهة الجمهور أو الاشتراك فى ندوة أو محاضرة ما أنا عارف نفسى حاموت من العياط».. ويتنقل الحفيد «إحسان» في طفولته بين بيت الجد الشيخ رضوان المتدين الملتزم بالتقاليد والأستار وبين بيت الأم الفنانة والصحفية التى تعقد في صالونها ندوات ثقافية وسياسية يشترك فيها كبار الشعراء والأدباء والسياسيين ورجال الفن، فيتنقل الصغير بين مكانين متناقضين يقول عنهما «كان الانتقال يصيبنى بالدوار حتى اعتدت عليه بالتدريج واستطعت أن أعد نفسى لتقبُله كأمر واقع فى حياتى». وإذا ما كان مقاله ضد «اللورد كيلرن» قد أودى به للمعتقل فلقد نجح إحسان عبدالقدوس بقلمه الحر أن يكشف النقاب عن الجريمة التى اقترنت بتسليح الجيش المصرى من أجل أن يخوض معركة تحرير فلسطين عام 48.. كشف إحسان علي صفحات روزااليوسف عن قصة الأسلحة الفاسدة، حيث انتقلت القضية إلى قاعة مجلس الشيوخ ليطرحها النائب مصطفى مرعى مستندا إلى ما كتبه إحسان لتغدو المعركة التى تؤدى إلى سقوط النظام القديم وقيام نظام جديد هو نظام ثورة 23 يوليو، وقد جاء فى تفاصيل المؤامرة التي كشفها إحسان أن مورد السلاح لمصر اسمه رودى رجيلة كان في خدمة أحد البنوك وصدر ضده حكم من محكمة الجنايات وقد أوكلت له لجنة احتياجات القوات المسلحة أن يورِّد لها خمسين ألف طلقة مضادة للدبابات مشروط فيها أن تكون مطابقة تماما للنوع الأمريكى، واتفق علي أن تدفع الدولة ثمناً لكل طلقة تسعة آلاف ليرة إيطالية، فبلغ مجموع هذه الصفقة 450 مليون ليرة، وكان هذا فى فبراير 1949، وفي مارس 1949 أوفدت الوزارة مفتشاً للذخيرة والمفرقعات مع اثنين من المدنيين لفحص الطلقات موضوع العقد واختبارها ومراقبة صنعها فإذا بهذا المفتش ورفيقيه يقولون في تقرير رسمى إن ما يصنع جديدا فى إيطاليا هو الدانات والبارود الأسود فقط، أما بقية الأجزاء والعبوات كالطابة والمحول والمادة المحطمة للدانة والمادة القاذفة والظرف النحاس فجميعها مستخرجة من ذخائر مخلفات الجيش الأمريكى غير الصالحة ويجرى التفتيش عليها لتحليلها بواسطة الضابط مفتش المفرقعات.. وبالنسبة إلى عملية التفتيش والتحليل وحدها فهي غير كافية للحكم على صلاحية تلك المواد بل يجب إجراء اختبار بالضرب الفعلى للتأكد من بقية الشروط فلذلك تم الاتفاق علي إرسال الذخيرة إلى مصر لمعرفة النتيجة بالضرب الفعلى وعلي الطبيعة، وقد أرسل من هذه القذائف 23 ألفاً اتضح باختبارها أنها غير صالحة لرداءة العبوة القاذفة والمشعلات بدليل عدم حصول الاحتراق الكامل، وخلص التقرير بأن الذخيرة المستوردة ألمانية وليست إيطالية ولا حديثة الصنع وإنما من مخلفات الحرب الماضية، ومن أنواع مختلفة التصميم والقياس وغير موحدة، وبعضها تعرض للبقاء في المياه المالحة لمدد طويلة فصدأ وحدث به تآكل شديد بالقمة.. وبعد أيام قلائل وردت إلى مخازن وادى حوف ذخيرة أخرى زنتها 70 طناً من نفس المتعهد «رودى رجيله» ظهر من فحصها أنها كُهنة بسبب تخزينها بطريقة بدائية الخ..».. ويختتم مرعى تقريره المستمد من التحقيقات الصحفية التى نشرها إحسان عبدالقدوس على صفحات روزااليوسف للكشف عن أخطر قضايا الفساد المصرى بقوله: «نحن يا سادة فى وضع يجعلنا نعتقد وبقوة أن الذى يمدنا بالمؤونة والذخيرة متآمر علينا، ونحن الآن في حالة حرب وكيف نسكت علي ترك رجال جيشنا في ميدان المعركة يقاتلون العدو بتلك الذخيرة التآمرية العفنة».. وتتوالى معارك إحسان الصحفية ليكتب مقاله الشهير «الجمعية السرية التى تحكم مصر» ليدفع ثمنه دخول السجن الحربى لمدة 3 أشهر فى زنزانة انفرادية رقم «19» من 28 ابريل حتى 31 يوليو 1954 وظل يحتفظ طول حياته بكوز الزنزانة الذي أكله الصدأ على سبيل التذكار، وبعد الإفراج عنه دعاه عبدالناصر للعشاء في بيته على مدى شهر كامل لإزالة أى أثر نفسى من فترة الحوائط المغلقة، ومنع الزيارة والحرمان من قراءة الصحف وقطع تيار الكهرباء، وكان إحسان ينادى ناصر قبل السجن بلقب «يا جيمى» ولكن بعد السجن ورغم دردشة ليالى العشاء أصبح يناديه «سيادتك» وإن ظل يقول عنه إن عبدالناصر رقيب متفتح للغاية، فقد سمح لي بنشر معظم قصصى حتى تلك التي حملت نقدا سياسيا، فقد كتبت قصة تسمى «قطعة من الصفيح الصدئ» ملخصها إن ما كان يحدث قبل الثورة أصبح يحدث أيضا بعدها، وقتها قال لي عبدالناصر عندك حق فلابد من الإصلاح السياسى.. ورغم تلك الشهادة فى حق ناصر إلا أن الشرخ قد شوه الشفافية، والسجن كان علامة فارقة ومن بعدها تعلم إحسان: «تعلمت أن أضع حاجزا بينى وبين أصدقائى المناضلين الذين أصبحوا رجال سلطة.. حدث هذا أيضا مع السادات ولكنه لم يسجننى ولكنه سجن ابنى محمد عبدالقدوس»، وكان إحسان أول كاتب في مصر وربما فى العالم تعرض قصصه على البرلمان لأنها تخدش الحياء العام! ولقد اتصل أنور السادات وكان وقتها رئيسا لمجلس الأمة ليبلغ إحسان بعرض قصته «أنف وثلاث عيون» علي المجلس بناء علي طلب العضو عبدالصمد محمد عبدالصمد، ووقف الدكتور عبدالقادر حاتم أمام أعضاء المجلس يشرح علاقة الحكومة بالصحافة والأحكام الدستورية والقانونية التى تحكم نظام الصحافة في مصر، والطريف أنه بعد ذلك بسنوات دخل النائب الذى قدم الاستجواب لهذه القصة إلي إحسان عبدالقدوس في مكتبه قائلا: «أنا فى الحقيقة لم أقرأ القصة! فرد إحسان: ولماذا إذن قدمت الاستجواب؟ فأتى رده المجحف: سمعت الناس بتتكلم عنها بكلام مش ولابد!». إحسان صاحب القلم الذى كتب يوما «يا عزيزى كلنا لصوص» كان صاحب فكرة ومؤسس وكاتب مذكرة إنشاء المجلس الأعلى للآداب والفنون التى قدمها لعبدالناصر فأحالها إلى وزير ثقافته كمال الدين حسين، ويفاجأ إحسان بالكاتب يوسف السباعى يبلغه باستبعاده من اللجنة العليا للمجلس بعد إنشائه وإقصائه إلى مجرد عضو مهمش بإحدى لجان المجلس، ويلازم إحسان ذلك الإقصاء والتجاهل والصمت المتعمد من أجهزة الإعلام المكتوب والمسموع والمرئى ليواصل كتاباته متجاهلا كل السهام التى وجهت إليه واضعا كل همه فى قلمه ليعبر عن منهجه بقوله: «عندما أكتب سواء في الأدب أو السياسة لا أفكر إلا في سطورى.. وهناك خيط بين المسموح والممنوع.. ودائما ما أتجاوز هذا الخط دونما أشعر وغالباً لا ألتفت إليه».. وكثيرًا ما تدخلت الرقابة مع رواياته المتجاوزة فى عُرفها عندما قدمت للسينما مثل فيلم «البنات والصيف» حيث قامت فيه بتعديل النهاية بانتحار البطلة مريم فخرالدين عقاباً لها على خيانتها لزوجها، وفي فيلم «لا أنام» قامت الرقابة بحرق بطلة الفيلم «فاتن حمامة» لأنها كانت بنت شريرة رغم أن القصة لم تكن كذلك، وفي فيلم «الطريق المسدود» طلبت الرقابة تعديل الفيلم وبدلا من انتحار البطلة فى القصة الأصلية أن يستر عليها أحدهم بالزواج منها، وفى فيلم «يا عزيزى كلنا لصوص» أوقف وزير الثقافة عرض الفيلم لمدة عامين منعا للاحراج بسبب العنوان، وفى فيلم «حتى لا يطير الدخان» قامت الرقابة برفض القصة من أساسه حتى أن المنتج تخلي عن مشروع الفيلم، وبعدها قام المخرج أحمد يحيى بعمل استئناف إلى لجان التظلمات، وكانت معركة طويلة حتى تمت الموافقة عليه.. كان إحسان ابن ثورة 1919 الذى صنعت أمه للمولود ثوباً من قماش العلم الأخضر ليكون أول رمز لكفاح الوليد وتحديه، وشبَّ إحسان وطنياً حتى أطراف أصابعه، واشترك فى مقتبل الشباب فى مظاهرات الثلاثينيات ضد الانجليز، وحين هتفَ زعيم المظاهرة «يحيا الثبات على المبدأ» التزم إحسان الثبات في مكانه ولم يأخذ ذيله في أسنانه ويجرى كالآخرين فأصبح وحده في مواجهة الكونستابل الانجليزى الذى حوَّلَ وجهه بالكرباج إلى شبكة من الدماء، وظل إحسان عبدالقدوس علي امتداد حياته كاتبا حرا لم ينضم إلى أى حزب أو هيئة أو اتجاه سياسى، باستثناء شهرين انضم فيها لجمعية ماركسية سرعان ما انسحب منها لأنه تمادى فى انتقاد أفكار كارل ماركس.. وإذا ما كان الكاتب الحر قد أصيب بجلطة فى المخ فى 1989 ليقرر الطبيب المعالج بالمركز الطبى بجامعة فرجينيا عمل الجراحة الواجبة، فإن مضاعفات الاعتداء القديم عليه في عام 1951 تسببت في استحالة تلك الجراحة وذلك عندما اكتشف الطبيب ورمًا وتجمعًا دمويًا بمنطقة الجبهة ليتعرف على آثار ضربات قوية بآلة حادة على مؤخرة الرأس والجبهة، ويغادر الطبيب فجأة غرفة العمليات ليسأل أفراد العائلة، حيث إن معلوماته أن المريض أديب وكاتب مصرى معروف فتحيطه الزوجة علماً بأنه كانت هناك محاولة اغتيال قديمة فيهز العالمي رأسه مؤكدا صعوبة إجراء أى عملية التي قد تنجح ولكنها تنتهى حتماً بموت المريض، ونصح بعودة إحسان لأرض الوطن فمن المقدر له ألا يعيش أكثر من ستة أشهر.. وذهبنا إليه نودعه دفقات دفقات فى مستشفى المقاولين العرب، وفى عيد ميلاده أطفأ الشمع وغاب عن الوعى على مدى عشرة أيام انطفأت شمسها معه.. وتقوم الدولة المغيبة الكسول غير محمودة ولا مشكورة بالبكاء على اللبن المسكوب فتمنح اسم المرحوم إحسان عبدالقدوس جائزة الدولة التقديرية فى الأدب لعام 1989.. بعد إيه؟!.. بعد إيه؟!.. بعد إيه يا عزيزى إحسان!!! [email protected] لمزيد من مقالات سناء البيسى