أمضي الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس ثلاثة أشهر في السجن بقرار من الرئيس جمال عبدالناصر بسبب مقال كتبه »إحسان« في روزاليوسف بعنوان: »الجمعية السرية التي تحكم مصر«. خرج »إحسان« من السجن بعد انتهاء فترة الاعتقال متوجهاً إلي شقته.. وما كاد يدخلها، حتي تنامي إليه صوت جرس التليفون، كأن من يريد أن يحدثه كان يعرف بالدقيقة متي سيدفع بباب منزله؟ ومتي يقترب من التليفون؟ ويحكي »إحسان« تفاصيل هذه المكالمة الغريبة في شهادته للأستاذ مصطفي عبدالغني مؤلف كتاب: »الشهادات الأخيرة. المثقفون وثورة يوليو« فيقول: حين رفعت السماعة.. عرفت أن المتحدث كان جمال عبدالناصر شخصياً. وقبل أن أردد الكلمة التقليدية »آلو« جاءني صوته ضاحكاً: »اتربيت ولا لسه ما تربيتش يا إحسان؟!«. أجبت: »والله أنا مش عارف أتربي من إيه عشان أقولك«. فقال باقتضاب، وفي شبه أمر: »تعال.. افطر معايا بكرة«. وذهب إحسان في صباح اليوم التالي لتناول الإفطار مع جمال.. صديقه القديم الذي كان يدعوه ب »جيمي« قبل أن يصدر أمراً باعتقاله لمدة ثلاثة شهور. وينقل د. مصطفي عبدالغني في كتابه المهم انطباعات إحسان عبدالقدوس عن زيارته لعبدالناصر بعد يوم واحد من الإفراج عنه، كالآتي: [ ذهبت للموعد. فأنا لا أملك غير ذلك. ورغم مظاهر الترحيب التي عرفتها، وأحسستها، من جمال عبدالناصر.. غير أن شهور السجن أكدت لي أن الأمور تغيّرت، وأن جمال عبدالناصر الصديق لم يعد هو »جيمي«، كما كنت أناديه دائماً. لقد تحوّل الصديق فجأة بالنسبة لي إلي حاكم، ووجدت نفسي أناديه ب »ياريس«. ولم يقتصر التغيير عليَّ أنا فقط، وإنما امتد إليه أيضاً. إذ تغيرت طريقة كلامه معي، ومعاملته لي. وهو ما انعكس عليّ.. فتغيرت تماماً إلي درجة أنه حين دعاني لأجلس إلي المائدة، قلت بسرعة ولا شعورياً: »اتفضل أنت يا أفندم«. فكرر جمال دعوته باستباقه لدخول غرفة المائدة: »يا راجل ادخل..« لكني تمسكت بالانتظار قائلاً:» لا والله يا أفندم. اتفضل سيادتك الأول«. أثناء تناول طعام الإفطار، وبعده، لاحظ إحسان عبدالقدوس أن كلمات جديدة لم يرددها من قبل قد أقحمت علي قاموسه الشخصي، مثل كلمات:»سيادتك«، و »يا أفندم«، و »يا ريس«.. وغيرها. كما اكتشف كاتبنا الكبير فيما بعد أنه كلما كتب مقالاً وجاء فيه ذكر عبدالناصر، كان يحرص تلقائياً علي أن يسبق اسمه بصفة: »الزعيم«. ولأن جمال عبدالناصر كان يشتهر بالذكاء، فإنه لاحظ بسرعة التغيير الذي طرأ علي صديقه القديم. ولم يتأخر تعليق عبدالناصر كثيراً. فقد سأل إحسان: »إيه ده يا إحسان؟ هو السجن عمل فيك كده؟«. فأجاب إحسان عبدالقدوس: » عمل أكثر يا سيادة الرئيس!«. استمر عبدالناصر يدعو إحسان كل مساء ولمدة شهر كامل لتناول العشاء، ويصر علي إبقائه لمشاركته في مشاهدة الأفلام السينمائية التي كانت أثيرة لديه. ويتذكر كاتبنا الكبير ما سمعه ذات مساء من جمال عبدالناصر، فيقول: »في إحدي هذه الأمسيات.. قال عبدالناصر لي، وهو يتصنع النظر إلي الفيلم أمامنا: »أنا بأعالجك نفسياً عشان تتغير. أنا حقيقة أمرت بسجنك بدون أن أقرأ هذا المقال الذي كتبته! لقد أمرت بالقبض عليك، وسجنك، نتيجة لما نقل إليّ عن مضمون هذا المقال.. ويبدو يا إحسان أن ما نقل إليّ كان خاطئاً!«. أظن أن كاتبنا الكبير لابد أنه صدم صدمة كبيرة مما سمعه بلسان الرئيس عبدالناصر، معترفاً أمامه بأنه أمر بالقبض عليه، واعتقاله لمدة ثلاثة شهور كاملة، عقاباً له علي مقال كتبه إحسان في مجلة »روزاليوسف« ولم يقرأّه عبدالناصر.. وإنما نُقل إليه مضمونه بعد تشويهه: جهلاً أو عمداً! في شهادته المنشورة في كتاب د. مصطفي عبدالغني:»المثقفون وثورة يوليو« قال إحسان عبدالقدوس إنه ظل صامتاً أثناء اعتراف الرئيس عبدالناصر بأن أحدهم لخص المقال المنشور علي غير حقيقته، مما تسبب في اعتقال وسجن الكاتب ظلماً! و أظن أن كاتبنا الكبير لم يجد داعياً للتعليق علي اعتراف عبدالناصر. فمهما دقق إحسان في انتقاء، واختيار، أخف، وأرق كلمات التعليق.. فلن يستطيع إخفاء غضبه، وصدمته، بسبب سجنه 3شهور كاملة عن جريمة لم يرتكبها.. باعتراف الرئيس نفسه! قطع عبدالناصر صمت إحسان، قائلاً: »..علي كل حال يا إحسان.. أنا قرأت المقال فيما بعد، وفهمت أنك كنت بتقول رأيك إللي عودتنا عليه!«. مرة أخري.. احتفظ إحسان عبدالقدوس بالصمت الذي هو أضمن، وأكثر أمناً، من أي كلام! غادر »إحسان« منزل »عبدالناصر« .. مصمماً بينه وبين نفسه علي الابتعاد سياسياً قولاً أو كتابة بعد أن تأكد من أن صديقه القديم أصبح حاكماً.. فالذي كان يتحمله الأول، يصعب علي الثاني تقبله. .. وأتابع غداً.