بعد صدور الحكم بحبس إسلام البحيرى بتهمة إزدراء الأديان، نشط الكلام فى الصحف وعلي مواقع التواصل الإجتماعى سواء برفض الحكم أو بتأييده، والدعوة إلي تجديد الخطاب الديني، ولما كان الأمر يحتاج إلى كثير من العقل فى مناقشة هذا الأمر خصوصا مع الضرورة الملحة لإعادة تقييم الخطاب الدينى وتنقيحه قبل تجديده. فكرت أن أعود إلى تاريخ نشأة العديد من العلوم الإسلامية واولها علم الكلام لعلنا نصل جميعاً إلى نقطة نبدا منها دون الوقوع فى أخطاء تجعلنا عرضة لتيارات التكفير والتخوين. علم الكلام من أقدم العلوم الإسلامية، وأشدّها حساسيةً، إذ نشأ بغرض أن يتحرّى العلماء الدليل الصحيح والمقنع في الأصول الدينية ، خصوصاً بعد الفتوحات الإسلامية ودخول شعوب من غير أهل الجزيرة العربية في الإسلام، واختلاف اللغة والأفكار والعقائد فيما بينهم، الأمر الذى اقتضي من علماء المسلمين الأوائل البحث عن أدلة عقلية لتوضيح مسائل الاعتقاد بعد وفاة الرسول (ص) والصحابة من بعده. عرّف عالم الاجتماع ابن خلدون علم الكلام بأنه " ذلك العلم الذى يناقش الحجج عن العقائد الإيمانية وإثباتها بالأدلة العقلية" كما قال عنه عضد الدين الإيجي إنه "علم يستطاع معه إثبات العقائد الدينية، وإيراد الحجج على صحتها، ودفع مواطن الإشتباه عنها." واستخدم علماء الكلام الإستدلال على يقينيات عقلية بالمدركات الحسية، و المشاهدة المتكررة والتجربة العملية والإختبار، وأيضاً المتواترات من الأخبار، وذلك لإنتاج المعرفة وإدراكها موضوعيا بواسطة النظر والتفكير والحجة والبرهان، بحيث يمكن التوفيق بين النقل والعقل للإستدلال والنظر على صحة القواعد الإيمانية الموجودة فى النصوص المقدسة المتعلقة بالمسائل الغيبية إجمالاً. هذه النقاشات النظرية في علم الكلام أدت إلى ظهور فرق كلامية دينية لها أفكارها، ومبادئها، ونظرياتها، وطرق دفاعها عنها، وأهمها فرقة الخوارج التى ظهرت بعد رفض مجموعة من أتباع علي ابن أبي طالب التحكيم بينه وبين معاوية بن أبي سفيان، فى موقعة صفين، واعتنقت هذه الفرقة مبدأ أن الإيمان "تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح" وأي إخلال بشرط من هذه الشروط الثلاثة يؤدي بصاحبه إلى الكفر. ثم ظهرت فرقة المرجئة و التزمت بمبدأ الحياد تجاه المشكلات السياسية، و حددت الإيمان بأنه تصديق بالقلب فقط وبذلك لا تنفع مع الكفر طاعة كما لا تضر مع الإيمان معصية. وقد سعت الدولة الأموية إلى دعم بعض الأطروحات من الفرقتين بحسب توافقها مع أهدافها وأيديولوجيتها مثل مبدأى الجبر و الاختيار فى أفعال البشر ، بمعنى هل يختار الإنسان أفعاله أم أنها مقدرة سلفاً، وكان ذلك سببا لطرح موضوع العدل الإلهي طرحا نظريا ممنهجا، مما أفرز تيارات مختلفة ومذاهب متنوعة تناولت جميعاً مناقشة موضوعات نظرية تمحورت أساسا حول مفهوم التوحيد والتنزيه المطلق للذات الإلهية. ومالبثت تلك العوامل ، إضافة إلى عوامل فكرية وسياسية أخرى، أن أفرزت طائفة كلامية جديدة كان هدفها الأساسى مواجهة مختلف التحديات والشبهات التي ألصقت بالعقيدة الإسلامية، ومن ثم سعت إلى إعادة تأسيس مفهوم جديد للتوحيد يقوم على مبدإ التنزيه المطلق للذات الإلهية، وتصور خاص للعدل الإلهي وهي فرقة المعتزلة، التي تمكنت من أن تؤسس إطارا فكريا متناسقا ومنسجما، وقد جاء ظهورهم تدريجيا في أواخر عصر الخلفاء الراشدين مع بداية زمن الأمويين حيث تطورت مقولاتهم الكلامية، ومع بداية عصر العباسيين سيطر مذهبهم على الدولة حتى زمن الخليفة المتوكل واشتهر المعتزلة بمناقشة مسائل التوحيد، والعدل الإلهي، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبمجيئ العباسيين للحكم تغيرت سياسة الدولة تجاه المعتزلة، خاصة في زمن الخلفاء المتوكل والواثق والمعتصم، فبدأ انحسار المعتزلة، وتناقصت شعبيتهم، و انفصل عنهم أبو الحسن الأشعري وأسس مذهباً جديدأ عرف باسمه، ليكون مذهباً وسطياً فى الفكر الإسلامي وهو الأمر الذى ساهم فى انتشار فكر الأشاعرة بسبب ضيق الناس من تشدد مذاهب الفكر الأخرى آنذاك. لاشك أن الخلاف السياسي الذي أعقب أحداث الفتنة الكبرى، وما صاحب ذلك من صراعات وانقسامات أفرز فرقا وتيارات سياسية ودينية، ملأت قاعات الدروس بأطروحات نظرية هدفها شرح العقيدة الإسلامية للناس، ولازلنا حتى الآن ننهل من هذه النقاشات المهمة من أمهات الكتب، لكن تطور الحياة ربما يجعلنا فى حاجة إلى إعادة النقاش حين نتحدث عن تجديد الخطاب الدينى لعلنا نصل إلي التجديد المرجو ولكن بأمان. [email protected] لمزيد من مقالات أحمد محمود