التمسك بالدلالة الحرفية للصورة يُعد بمثابة نفي للتطور وتثبيت صورة الواقع الذي تجاوزه التاريخ منذ عرف المجتمع المسلم ظاهرة الحاكم الجائر اندلع الخلاف السياسي والثقافي وكانت المفاهيم المثارة عصرئذٍ محملة بدلالات سياسية المعتزلة كانت مدرسة فكرية تلتقي فيها المذاهب في كل الآراء من المبادئ السياسية أنه لا تستقيم الحياة السياسية في المجتمع إلا بإرشاد السلطة على طريق العدل ومعارضتها إذا سلكت طريق الظلم المعتزلة" مدرسة فكرية لإلتقاء المذاهب يُصر الأكاديميون في مجتمعنا على قراءة التراث الاعتزالي بطريقة نمطية تعتمد على مرويات المتأخرين من مؤرخي الفرق، ولعل أبرز معالم هذه القراءة تتمثل في: أولاً. تصور المعتزلة كفرقة مذهبية ضمن مجموعة من المذاهب لاتفترق ولاتختلف عنها. أو تصور المعتزلة كفرقة عقائدية في مقابل الفرق السياسية كالشيعة والخوارج. ولكن ما ينقض هذين التصورين أن المعتزلة كانت مدرسة فكرية تلتقي فيها المذاهب. فكان الشيعة الزيدية تتفق مع المعتزلة في كل الآراء. ماعدا الإمامة فقد كانت شرعية الإمامة عند الزيدية قائمة على النص الديني في الأئمة الثلاثة علي والحسن والحسين - رضي الله عنهم - ثم تكون شرعية الإمامة بعد ذلك قائمة على الدعوة والخروج. لكن رأي المعتزلة أن شرعية الإمامة لا تتحقق إلا باختيار الأمة وليس بالنص أو بالخروج والدعوة، ويرتبط استمرار الشرعية عندهم بالعدل. أما الخوارج فقد اتفقوا مع المعتزلة في معظم آرائهم كخلق القرآن، وحرية الإنسان، وبقية مبادئهم، باستثناء مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو عند المعتزلة من المبادئ السياسية، فلا تستقيم الحياة السياسية في المجتمع إلا بإرشاد السلطة على طريق العدل، ومعارضتها إذا سلكت طريق الظلم. أما الخوارج فقد نظروا إلى مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظرة عقائدية؛ لذلك يعتبرونه نوعًا من الجهاد ضد الكفار. أما السُنة فقد اقترب بعض ممثليها الكبار مع المعتزلة فقد قال الأشعري بتأويل الصفات الإلهية وإن كان الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة جذريا فيما عدا ذلك. وقد تبنى الفقيه الأشعري أبو اسحاق الشاطبي نظرية المعتزلة في تعليل أفعال الله خلافًا للرأي الأشعري. وبذلك نرى أننا أمام مدرسة فكرية بالغة الثراء المعرفي، وبالحيوية الفكرية التي لا يستغنى عنها أي مجتمع. وثانيًا. النظر إلى علم الكلام كلاهوت إسلامي، ففي كثير من الأحيان يستعمل بعض الباحثين المصطلحين كمترادفين، ويأتي ذلك بطريقة تبسيطية لاتهتم بالفارق الحاسم بين المفهومين، مفهوم علم الكلام بأل التعريف أي أهم الكلام عند المسلمين. ومفهوم اللاهوت وهو يدل على القضايا المتعلقة بالذات الإلهية. وأحيانا يجمع بعض الباحثين بين المفهومين عن قصد بمعنى ان علم الكلام في السياق التاريخي الإسلامي لا يختلف عن اللاهوت في السياق المسيحي، وفي هذا تغطية على الحقيقة التاريخية توجب علينا تبيين الأبعاد السياسية للقضايا الكلامية خاصة بعد أن أعاد المذهب الأشعري صياغة علم الكلام وأعطى للإلهيات الأولوية القصوى على الإنسانيات وثبتت العلم في مرحلة تاريخية محددة كمايقول د.نصر أبو زيد. ولنرى الآن الأبعاد السياسية لآراء المعتزلة، عندما قام واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد بتأسيس هذه المدرسة، كانت لها إسهامًا معرفيًا وعمليًا في الواقع السياسي والثقافي، فمنذ عرف المجتمع المسلم ظاهرة الحاكم الجائر، اندلع الخلاف السياسي والثقافي وكانت المفاهيم المثارة عصرئذٍ محملة بدلالات سياسية، فالخواج قالوا إن الإمام الجائر هو كافر فاسق حلال الدم، وهو ما يهدد المجتمع في وجوده. والمرجئة قالوا هو مؤمن، وهذا الرأي يهدد بإطالة أمد الاستبداد. والشيعة قالوا هو كافر نعمة فاسق. فحاول المعتزلة جمع شتات الأمة بالقول بما اتفق عليه الأغلبية وطرح ما اختلفوا فيه وهو "الفسق" والفاسق ليس مكتمل الإيمان وليس بكافر أيضًا وتلك هي المنزلة بين المنزلتين. وهي المسألة الأولى في تاريخ المعتزلة. ثم جعلوا أصل العدل هو الأساس, والعدل هو ما يقتضيه العقل من الحكمة، وأصل التوحيد يرتد بدوره إلى أصل العدل ومسألة خلق الأفعال تدل على ذلك. وبناء على أصل العدل وضع المعتزلة منظومة أخلاقية وقانونية حاكمة لعلاقة الله بالإنسان, وعلاقة الإنسان بالإنسان وبالأخص علاقة الحاكم بالمحكومين. وهناك خلاف بين هذا الاتجاه لتصور الألوهية عند المعتزلة وتصور الألوهية عند الأشاعرة الذي يتفق وتصورهم للحاكم الفرد مطلق الإرادة مطلق السلطة والقدرة. لكن المعتزلة عارضوا هذا التصور للألوهية وما يترتب عليه من تفسير ما ورد من النصوص في صفات الله التي توهم الحسية: كالعرش والملك, وتصوروا الله منزهاً عن التشبية والتجسيم واضطروا إلى وضع العبارات القرانية التي توهم بذلك ضمن دائرة المجاز والتأويل. ويقول د.نصر أبوزيد - في كتاب نقد الخطاب الديني- إن صورة الملك والملكة بكل ما يساندها من صور جزئية تعكس دلاليًا واقعًا مثاليًا تاريخيًا محددًا, كما تعكس تصورات ثقافية تاريخية, والتمسك بالدلالة الحرفية للصورة - التي تجاوزتها الثقافة وانتفت من الواقع- يُعد بمثابة نفي للتطور وتثبيت صورة الواقع الذي تجاوزه التاريخ. وعلى النقيض من الموقف التثبيتي يكون التأويل المجازي نفيًا للصورة الأسطورية, وتأسيساً لمفاهيم عقلية تحقيقاً لواقع إنساني أفضل. من هنا نفهم أن المعارك التي خاضها المعتزلة في مجال تأويل النصوص الدينية ضد الحرفيين لم تكن مجرد معارك فكرية ذات طابع نخبوي, بل كانت معارك حول صورة الواقع الاجتماعي وما يرتبط به من مفاهيم ثقافية. وليس غريبًا والحال كذلك أن يتمسك الأشاعرة بصورة الملك المتسلط الذي يعذب ولا يبالي, والذي (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) في حين يتمسك المعتزلة بنفي الظلم عن الأفعال الإلهية تثبيتاً لمبدا العدل في الواقع والمجتمع. وفي النهاية نحتاج بالفعل إلى إعادة النظر في هذا التراث القيم ونحتاج الروح الاعتزالية الباحثة عن العدل والمتيمة بالحرية.