تصاعدت وتيرة الجهود التي تبذلها قوى إقليمية ودولية عديدة للوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية، وهو ما يبدو جليا في انعقاد اجتماعات فيينا في 30 أكتوبر و14 نوفمبر 2015، ثم تنظيم مؤتمر المعارضة السورية في الرياض يومي 9 و10 ديسمبر من العام نفسه. لكن اللافت في هذا السياق، هو أنه بقدر ما كانت تلك الجهود فرصة لتقريب رؤي ومواقف القوى والأطراف المعنية بتطورات الأزمة وتداعياتها، بقدر ما كانت في الوقت نفسه سببا في ظهور خلافات جديدة ربما تضيف عقبات متعددة أمام الوصول إلى تلك التسوية. فإلى جانب التباين فى المواقف حول مصير الرئيس السورى بشار الأسد والحرب ضد الإرهاب، فقد ظهر خلاف جديد حول هوية قوى المعارضة التى سوف تتفاوض مع النظام السوري، وفقا لبيان فيينا، فى بداية عام 2016. ومن هنا ربما يمكن القول إن الخلاف بين تلك القوى تحول من خلاف حول «قضايا التسوية» إلى خلاف حول «مرجعية الحل»، فى ظل ظهور مسارات متوازية لتلك التسوية، يفرضها تشابك وتعقد مصالح وسياسات تلك القوى. قائمة الإرهابيين يمثل تصنيف تنظيمات المعارضة المسلحة التى تحارب النظام السورى محورا رئيسيا للخلاف بين القوى المعنية بالأزمة السورية. إذ أن معظم تلك القوى تتبنى مقاربات مختلفة فى هذا السياق، حيث ما زال نظام الرئيس السورى بشار الأسد مصرا على اتهام معظم تلك التنظيمات، إن لم يكن مجملها بالإرهاب، وهو ما يتوافق إلى حد كبير مع موقف إيران تحديدا، وإن كان ذلك لم يمنع إيران، فى بعض الأحيان، من المشاركة فى جهود إبرام صفقات مع بعض تلك التنظيمات تتعلق بتبادل الأسرى أو الإفراج عن بعض الرهائن، خلال الفترة الماضية. فى حين تتبنى روسيا موقفا أكثر مرونة، فى ظل اهتمامها بفتح قنوات تواصل مع بعض تلك التنظيمات على غرار الجيش السورى الحر، الذى أكد الرئيس الروسى فيلاديمير بوتين، فى 11 ديسمبر 2015، أن روسيا قامت بدعمه عسكريا فى الحرب ضد تنظيم «داعش»، وذلك لتحقيق أهداف عديدة منها الرد على الاتهامات التى وجهتها قوى عديدة، مثل الولاياتالمتحدةالأمريكيةوتركيا، بتركيز الضربات العسكرية الروسية على المعارضة السورية وليس على تنظيم «داعش»، من أجل تغيير توازنات القوى على الأرض لصالح النظام السوري. شرعية الجهاد وفى مقابل ذلك، تسعى بعض القوى الإقليمية الداعمة للمعارضة السورية ليس فقط إلى إضفاء شرعية على أكبر عدد من تلك التنظيمات، على غرار حركة «أحرار الشام» و«جيش الإسلام»، فى إطار مقاربة تهدف من خلالها إلى تبنى تصنيف ضيق للتنظيمات الإرهابية، مثل تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة»، وإنما أيضا إلى تكريس دور بارز لتلك التنظيمات فى المفاوضات القادمة مع النظام، باعتبارها رقما مهما فى الصراع السوري. وقد بدا هذا الخلاف فى المواقف أكثر وضوحا مع انعقاد مؤتمر المعارضة السورية فى الرياض. إذ يبدو أن وثيقة الحل التى توصلت إليها المعارضة، توافقت مع الاتجاهات العامة لسياسات القوى الداعمة لها، خاصة فيما يتعلق بتمثيل التنظيمات المسلحة فى وفد المعارضة الذى سيتفاوض مع النظام فى بداية عام 2016، حيث حصلت تلك التنظيمات على الحصة الأكبر فى الهيئة العليا التى تضم 34 شخصية وتتولى مهمة تشكيل وفد التفاوض، وذلك بواقع 11 عضوا، فى حين سيمثل الائتلاف الوطنى السورى ب 9 أعضاء وهيئة التنسيق ب 6 أعضاء، والمستقلين ب 8 أعضاء. ومن دون شك، فإن ذلك لا يتوافق مع رؤى وسياسات القوى والأطراف الداعمة لنظام الرئيس السورى بشار الأسد، التى ما زالت مصرة على ضرورة تصنيف تنظيمات المعارضة، ما بين إرهابية ومعتدلة، قبل بدء المفاوضات مع الأخير. كما أنها لا تبدو مطمئنة إزاء استبعاد بعض الأطراف الرئيسية فى الصراع على غرار حزب الاتحاد الديمقراطى الكردي، رغم الدور البارز الذى مارسته الميليشيات الكردية فى الحرب ضد تنظيم "داعش"، واعتبرت أن ذلك يدخل فى إطار التنسيق بين القوى الداعمة للمعارضة التى يسعى بعضها، على غرار تركيا، إلى تقليص المكاسب المحتملة التى يمكن أن يحصل الأكراد عليها فى مرحلة ما بعد الوصول إلى تسوية محتملة. شروط مسبقة ومن هنا أبدت روسياوإيران، إلى جانب نظام الأسد، تحفظات عديدة على نتائج مؤتمر الرياض، حيث تبنى الأخير شرطين مسبقين قبل بداية المفاوضات مع المعارضة السورية وفقا لما نص عليه بيان فيينا، هما أن تكون معارضة سياسية وأن يكون ولاؤها للدولة السورية، بما يعنى أنه يرفض تلك النتائج، خاصة فيما يتعلق بالحوار مع تنظيمات مسلحة يعتبرها إرهابية. فى حين أشارت إيران إلى أن بعض القوى المشاركة فى المؤتمر إرهابية ومرتبطة بتنظيم «داعش»، فضلا عن أنها لا تبدو مطمئنة سواء لنفوذ القوى الإقليمية المناوئة لها داخل تكتلات المعارضة، أو للتداعيات التى يمكن أن يفرضها التوافق على بدء المفاوضات بين الأخيرة والنظام. أما روسيا فأكدت "ضرورة عدم استخدام الإرهابيين لأغراض سياسية مثل إبعاد النظام السورى عن الحكم، فى إشارة تكشف عن أنها ترى أن بعض التنظيمات التى شاركت فى اجتماع الرياض تدخل فى نظاق التنظيمات الإرهابية، وأنها ما زالت مصرة على ضرورة توسيع قائمة تلك التنظيمات بحيث لا تقتصر على تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» فقط. ويبدو أن تلميح روسيا اللافت فى الفترة الأخيرة إلى دعم الجيش السورى الحر، يمثل، فى أحد أبعاده، رسالة حاولت توجيهها إلى الأطراف المعنية بالأزمة بأنها لن تتعامل إلا مع الجيش السورى الحر، أى أنها ليست مع ما انتهى إليه اجتماع الرياض، فيما يتعلق بدعم الدور التفاوضى للتنظيمات المسلحة فى الفترة القادمة. وربما يمكن القول إن نظام الأسد قد يسعى إلى استثمار تلك التباينات فى المواقف بين روسيا والقوى الداعمة للمعارضة السورية، لتأكيد عدم جدوى تعويل موسكو على إمكانية الوصول إلى توافق بين النظام والمعارضة، لاسيما فى ظل حرص تلك القوى، فى رؤية النظام، على تفريغ ما تضمنه بيان فيينا من مضمونه. وبمعنى آخر، فإن نظام الأسد قد يسعى إلى استغلال تلك التباينات لكسب مزيد من الوقت على أساس أنه لم تعد لديه خيارات كثيرة للتعامل مع الضغوط الدولية والإقليمية التى يتعرض لها للدخول فى مفاوضات مع المعارضة بهدف الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة. اتجاه ثالث لكن وسط هذه المواقف الحدية بين الأطراف المؤيدة والمعارضة للنظام السوري، سعت قوى دولية أخرى إلى تبنى اتجاه ثالث أبدت من خلاله تأييدا نسبيا لما تم التوصل إليه فى اجتماع الرياض دون أن تدعم أجندته بشكل كامل، لاسيما فى ظل حذرها الواضح تجاه الخطاب العام الذى تتبناه بعض التنظيمات المشاركة فى المؤتمر، فضلا عن مخاوفها من أن يؤثر ذلك فى النهاية على الجهود الدولية المبذولة فى الوقت الحالى للوصول إلى تسوية للأزمة السورية. وتبدو الولاياتالمتحدةالأمريكية قريبة من هذا الاتجاه، خاصة فى ظل تأكيدها على أن بعض نقاط الاتفاق فى الرياض ما زالت فى حاجة إلى معالجة، ويبدو أن ذلك سوف يكون محور مناقشات واشنطن سواء مع القوى الداعمة للمعارضة، أو مع روسيا التى سيزورها وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى بغرض مناقشة ما انتهت إليه جهود تسوية الأزمة السورية قبل انعقاد الاجتماع القادم فى نيويورك. مصير الأسد أما محور الخلاف الآخر، الذى لا يقل أهمية، فيتمثل فى مصير الرئيس بشار الأسد فى المرحلة الانتقالية، حيث بدا جليا أن وثيقة الحل فى مؤتمر الرياض حاولت معالجة تلك المسألة بشكل واضح، من خلال تأكيدها على ضرورة خروج الأسد من الحكم فى بداية المرحلة الانتقالية، وهو ما يتوافق مع الاتجاهات العامة لسياسة القوى الإقليمية الداعمة للمعارضة السورية، على غرار تركيا وقطر والسعودية، التى أكد وزير خارجيتها عادل الجبير، فى اليوم الأول للاجتماع الذى تصادف مع انعقاد قمة مجلس التعاون الخليجى فى إشارة لها مغزاها ومفادها أن قوى المعارضة تستند إلى ظهير إقليمى بارز، على أن «الأسد سوف يرحل إما بالمفاوضات أو بالقتال». ومن دون شك، فإن ذلك يتباين، بدرجة ما، مع ما انتهى إليه بيان فيينا، الذى ألمح إلى إمكانية بقاء الأسد فى المرحلة الانتقالية وحتى إجراء الانتخابات الرئاسية فى غضون 18 شهرا. وعلى ضوء ذلك، لا يبدو أن رفض نظام الأسد وكل من موسكو وطهران لهذه المسألة محل شك. إذ أن تلك الأطراف مازالت مصرة على أن "الشعب السورى هو الجهة التى تمتلك قرار تغيير النظام". ومن ثم فإنها سوف تعتبر أن الهدف الأساسى لمؤتمر الرياض يتمثل فى تجاوز النتائج التى انتهت إليها اجتماعات فيينا وتحويل الرياض إلى المرجعية الرئيسية للمعارضة السورية. وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن القول إن الاجتماعات القادمة التى سوف تعقدها القوى المعنية بالأزمة السورية سوف تشهدا جدلا واسعا بين الاتجاه الذى تقوده روسياوإيران ونظام الأسد ويرى ضرورة الالتزام بما تم التوافق عليه فى بيان فيينا من أجل الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة، وبين الاتجاه الذى تتزعمه القوى الداعمة للمعارضة السورية ويدعو إلى العودة من جديد للاعتماد على المحاور الرئيسية لبيان «جنيف 1»، خاصة فيما يتعلق بتشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات. ارتباك وتردد وبالطبع، فإن ما سوف يصعد من حدة هذا الجدل المحتمل هو عدم تبلور موقف واضح من جانب العديد من القوى الرئيسية المشاركة فى تلك الاجتماعات، على غرار الولاياتالمتحدةالأمريكية، التى ما زال موقفها إزاء بعض القضايا الرئيسية على غرار مستقبل نظام الأسد يتسم بالارتباك والتردد، فى حين تبدو بعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا وألمانيا، أقرب إلى ضرورة فتح قنوات تواصل مع الأخير، خاصة فى ظل تصاعد حدة العمليات التى تنفذها التنظيمات الإرهابية فى الفترة الأخيرة، على غرار التفجيرات التى وقعت فى العاصمة الفرنسية باريس فى 13 نوفمبر 2015، فضلا عن استمرار التهديدات بارتكاب عمليات جديدة خلال الفترة القادمة.