فى قضية سد النهضة الإثيوبى هناك تساؤل ينبغى أن يدور فى أذهاننا حول طبيعة هذه القضية، وهل هى مائية بيئية بملابساتها المتعددة فقط أم هى سياسية أيضا؟ فى اعتقادى أنها سياسية بامتياز وقديمة العهد تعود جذورها إلى منتصف القرن السابع الميلادى حين امتدت دولة الخلافة الرشيدة إلى الشام ومصر أغلقت البحر الأحمر فى وجه إثيوبيا «الحبشة» ففقدت اتصالاتها بأوروبا والأراضى المقدسة وداخلها شعور بالوحدة بكونها جزيرة مسيحية «نشاز» وسط محيط لا يريد لها الخير. وعززت الأحداث التاريخية اللاحقة هذا الهاجس ليتحول إلى عقدة راسخة حتى اليوم. منها الصراع الذى نشب بين السلطنات الإسلامية التى شكلت حزاما شرقيا حول هضبة الإمبراطورية، واستمر طيلة القرنين 14 و 15، ثم غزو الخلافة العثمانية أراضيها واحتلال سواحلها بما فيها ميناء مصوع أوائل القرن 16، وزادت عليه بالتآمر مع الزعيم الإثيوبى الإمام أحمد الغزالى حاكم هرر الذى أعلن الجهاد ضد الامبراطورية وقاد حملة شرسة ضدها استمرت 15 عاما (1527 1542) حتى القضاء عليه بمساعدة عسكرية برتغالية، دمر خلالها أركان الإمبراطورية وفرض عليها ظلاما دامسا إذ تجنب الشعب ايقاد النار ليل نهار خوفا من استهدافه، وارتبطت مصر بهذه الأحداث بحكم انها جزء من الخلافة العثمانية، ثم تورطت فيها مباشرة فى عهد الخديو إسماعيل حين تركت الخلافة له الساحل الإثيوبى ليسيطر عليه ثم تجريده حملة عسكرية لاحتلال هرر. وسبقت ذلك أزمة الحدود الغربية مع السودان المصرى فى عهد سعيد باشا والتى كادت أن تتطور إلى حرب لولا أن أطفأها تدخل البابا كيرلس الرابع لدى الإمبراطور الإثيوبي. وشهد القرن العشرون توترا من نوع آخر بين البلدين حين أرادت إثيوبيا أن تكون رئاسة كنيستها إثيوبية خالصة وليست قبطية مصرية، وبدأت المحاولات بعد موت المطران القبطى الأصل متاؤس عام 1926 بحملة صحفية ضده وضد الكنيسة القبطية من جانب الصفوة والتقدميين الكنسيين وصفت الكنيسة المصرية باعتبارها «قوة استعمارية» احتلت البلاد وكنيستها ودارت مفاوضات رسمية مطولة بين البلدين بعد انتهاء الاحتلال الإيطالى لإثيوبيا عام 1941 استمرت عقدين من الزمان بين شد وجذب زادت خلالها نبرة التجريح والاتهامات، وتجددت عام 2000 حين وطدت الكنيسة القبطية علاقتها بشعب إريتريا خصم إثيوبيا فى ذلك الوقت وفى حرب معها وشاركت فى رسامة بطريرك إريترى له مما عنى استقلاله عن كنيسة إثيوبيا، وإريتريا تمثل وجعا إثيوبيا أشبه بالوجع الفلسطينى للأمة العربية، ثم أن تطلعات إثيوبيا الإقليمية وزعامتها، خاصة فى منطقة القرن الإفريقي، تراها مهددة دائما بما تعتقده من تدخلات مصرية مباشرة وغير مباشرة فيها، خاصة فى الصومال وإريتريا، بل وفى داخلها نفسها، وهناك حادث كاشف لعقدة التخوف الإثيوبى ففى عام 1956 فى أثناء الاعتداء الثلاثى على مصر، فتح ملحقنا العسكرى بأديس أبابا باب التطوع للإثيوبيين للقتال فى قناة السويس، فزحفت إلى مكتبه جموع غفيرة من الصوماليين وغيرهم من المسلمين، مما أزعج السلطات الإثيوبية للغاية، وكرد فعل لم تجدد عقود جميع المصريين العاملين بها واستغنت فى الحال عمن لا عقود لهم. ومصر من جانبها كما يبدو ترى فى سد النهضة محاولة إثيوبية سياسية الطابع لتحجيم هذا الدور المصرى، فهو سيكون بمثابة «صنبور ماء» ضخم يفتح ويغلق بإرادة إثيوبية خالصة، وكأنه «العصا والجزرة» للتحكم فى أدائها السياسى بمنطقتها ليتوافق مع مصالحها أو لكفه. ويتضح من كل هذا أن هناك أزمة ثقة سياسية عميقة متوطنة بين البلدين، زادتها عمقا للأسف معالجاتنا الإعلامية منذ بداية القضية، سواء بغياب الموضوعية عن الكثير من مقالات غير المتخصصين وحواراتهم التليفزيونية، أو الانفعالية الهوجاء فى المانشيتات الصحفية والتهجمات التليفزيونية، وبين هذا وذاك المعالجة الطائشة والمستفزة من جانب الزعامة الإخوانية فى وجود محمد مرسى. نقطة مضيئة وحيدة أشرقت من مالابو بغينيا الاستوائية إلى الخرطوم ومؤتمر القمة الثلاثى بها إلى أديس أبابا والزيارة الودية والخطاب الدبلوماسى أمام برلمانها، وصاحبها هو رئيسنا عبدالفتاح السيسى الذى بدأ الطريق الصعب نحو بناء الثقة بين البلدين باعتبار أن ذلك هو البداية الصحيحة لعلاج المشكلات وإيجاد المناخ الصحى لزرع التفاهم، وقيام شراكة حقيقية بين البلدين، والحق أن الرجل بحكم خبراته الطويلة ووطنيته الأصيلة يملك كل الملفات المصرية الشائكة ويعالجها بسياسة تتسم بالهدوء والرصانة وبعد النظر وبكثير من الوجدانية، وهى تتطلب منا إفساح المجال لها لتؤتى ثمارها، بجانب إيماننا بها ومساندتنا لها حيث إنها بددت الظلام الذى داهم البلاد. والآن يحدونا الأمل فى أن يتحول حوض النيل الشرقي، الذى يضم إثيوبيا والسودان ومصر، بما له من خواص جغرافية وجيولوجية وهيدرولوجية وأنثربولوجية وتاريخية متميزة، إلى وحدة متحددة تكون مثالا لإفريقيا كافة، وركيزة لسياسة إفريقية بناءة لبلادنا.. وتحيا مصر. د. أنطون يعقوب ميخائيل العميد السابق لمعهد الدراسات القبطية