ومنذ توصل الإنسان إلي زراعة الحبوب، وصناعة الخبز، يخوض مكابداته اليومية لأجله، ومهما تغيرت الأحوال، وتبدلت الأزمان، والأمكنة، يبقي الرغيف هدفا، ومسعي دائرياً كالساقية، من تعب الفلاح في زراعة القمح والذرة والشعير، إلي جهود الطحَّان، ومعاناة العجَّان، وتعب الخبَّاز، وفرحة الجوعي. العيش والملح ! ربما لم يرتق شيء في حياة الإنسان إلي مكانة «رغيف الخبز، تاريخيا واجتماعيا!.فهو غاية الطلب، وراية الشرف، ويمين الحالف، ومناط الصدقة، ورمز الشبع، وأمان البيوت، ومضرب الأمثال. والخبز لُغَةً من الضرب، وحسب لسان العرب: الخَبْزُ ضَرْب البعير الأرض بيديه، وسمي الخَبْزُ لضَرْب العجين بأَيديهم. واصطلاحا هو اسم جنس يطلق علي المادة الغذائية التي تُجهَّز من الدقيق والماء. ومنحه المصريون القدماء أسماء كثيرة، دونوها علي آثارهم من أختام الدولة الأولي، إلي لوحات الأسرة الثانية، وقوائم القرابين في المقابر والمعابد، وذكرت متون الأهرام والتوابيت كثيرا منها عبر أسرات مصر القديمة. وحسب أطلس المأثورات الشعبية، تسمي الخميرة البلدي في البحر الأحمر «الحدق» وفي أسوان «البرباسة» وتتم إذابتها في الماء والملح، ويضاف إليها دقيق وتُقلَّب حتي يصبح للعجينة قوام متماسك. وتستعمل الخميرة كعلاج في مناطق بخلطها مع اللبن الرايب، ويضاف إليها دقيق القمح والذرة، وأعشاب مطحونة مثل الحلفا بر، والدوم، وشجرة الغزال،و ورق الرمان، وكمية كبيرة من الماء حتي تصبح عجينة الخميرة سائلة جداً وتترك في إناء محكم الغلق لخمسة أيام، ثم تُصب علي دوكة (صاجة) فوق هادئة، وبسرعة يتم نضوج خبز الخميرة واسمه «الابريج»، ثم يوضع في الماء ويقدم كمشروب في محافظة أسوان للمرضي، وقبل تناول الإفطار في رمضان. وفي مأثورنا الشعبي تُعدُ السيدة التي يتخمر عجينها بسرعة غيورا، ودمها حام، حيث تنتقل سخونتها إلي العجين. وعكسها المرأة ذات الدم البارد، طويلة البال، فعجينها يتخمر ببطء. وماجور العجين العجانية في البحر الأحمر من الحجر المحفور، والخشب المتين، ويسمي في سيناء « الباطية»، وفي شلاتين يستخدم «زير العجين الصغير» ذو اليدين في العجين، وفي مطروح يسمي الماجور «القيشانية»، و«الشالية» الفخارية، ويعرف طشت العجين ب« الأروانة» و«اللقانة». وتخاطب السيدة التي تقوم بالعجين عجينها بقولها: «يا عجيني خد مهارتي وعجِّل قبل عجين جارتي»، و « يا عجيني اْخمَرّ وفُور صحابك من غير فطور» . ومن العادات الشهيرة في التراث، أن العجين لا تقربه حائض، ولا نفساء، ويُفضَّل أن تتوضأ من تتولي العجين، وتتلو الشهادتين علي الدقيق (المشاهدة)، فالعجين عنوان للطهر والنقاء. والمرأة المخلصة تحب عجينها، وترش وجهه بالدقيق لتستره، وتهدهده بأهازيج حميمية: سترتك بالدقيق يكفينا شر الضيق تسترني مثل ما سترتك تسترني ف كل طريق سترتك ما عفّرتك وعند إعداد الخبز، بعد اختماره تنشد له: يا عجين اشرب شرابك ما عذاب إلا عذابك يا عجين لُوف لُوف كما لافت النعجة ع الخروف يا عجين لوف لوف كما لافت الحنة ع الكفوف ولا تجلس أمام الفرن غاضبة، ولا حزينة، ولا نمَّامة، لتحفظ نفسها، وخُبزها، من أذي «ملك الفرن»، فإذا غضب حرق الخبز وبدد تعبهن. ويتم تجهيز الفرن البلدي بتجريف الرماد السابق، وتزويده بمكونات الوقود، من الجِلَّة المصنوعة من روث المواشي، أو قش الأرز والذرة في الدلتا، ومخلفات القصب في الصعيد، ويتم ضبط درجة حرارة الفرن، واختبارها بِبَدْر حفنة من الردَّة، فإذا زادت حرارته، يتم «تفويطه» بالماء لتبريده، حتي لا يشيط العيش، أي تْحمَرّ قشرته العلوية بسرعة وتظل لُبابته طرية، و«التفويط» أو «التفويد» أو «حَشّْ الفرن» كما يسمي في قنا، يتم بقماشة مبلولة تسمي «مصلحة الفرن». ولتبطيط الخبز أو فرده أو توسيعه تستخدم مطارح من الخشب أو الجريد بمقاسات مختلفة، وتستعمل لإدخال الأرغفة إلي الفرن، وبعد نضوجها تُسحب من الفرن بالحديدة أو «النشو» أو المحساس، وتترك لتهويتها، وبعدما تبرد تماما، تُحك الأرغفة ببعضها للتخلص من الردة الملتصقة بها، وفي مناطق يتم رص الخبز في سحارة خشبية أو سحارة الكنبة البلدي بعد فرشها بقماش نظيف، وفي مناطق أخري يحفظ الخبز في المشنة أو المقاطف أو القفف أو الأسبتة أو الأقفاص، وتستخدم بعض المناطق تعاليق من الجريد تعلق في السقف، وتسمي الشعاليب، أو الشعاليت (المفرد شعليتة)، أو في النملية، وهناك أيضا أدوات خوص لحفظ الخبز مثل «الطقطاقة» في الأقصر، والقفف والمقاطف والمغاريف والولات والعمرات في أسوان، ويخزن خبز مطروح في مرجونة مصنوعة من خوص النخيل، وهي تشبه الحلَّة ولها أذنان وغطاء محكم، وأواني الخوص تحافظ علي الخبز متماسكا وشبه طازج. وفي سيناء يُلف الخبز بقماش مشمع يشبه قماش الخيام يسمي « الزفال»، أو في أجولة، والخبز الطري إذا لم يُحفظ بطريقة جيدة يتعفن، ويسمي عفن الخبز في الأقصر « المشعب» و«المعطن»، وفي أسوان يسمي «المجنسب»، وعفن الخبز الأسمر «المصوفن». وتختلف أنواع الخبز وطريقة إعداده في مصر، جغرافيا، ومنها «الرغيف البلدي الأسمر» المنتشر في أغلب مدن مصر، وامتد الآن إلي أغلب القري بانتشار الأفران، و«العيش الفلاحي» ومنه المرحرح و البطّاطي والبتاو وغيرها، ويصنع من الذرة بإضافة بعض القمح، ثم أصبح مناصفة بين القمح والذرة، وكان الأكثر انتشارا في أغلب قري الصعيد والدلتا، باختلافات، مثل إضافة الحلبة في مناطق، وكان في الغربية والدقهلية ما يعرف «بخبز البامية»، لإضافتها مطحونة إلي دقيق الخبز. وفي كفر الشيخ يخلط بالشعير والأرز لانتشار زراعتهما هناك، و«البكوم» من دقيق القمح وبنفس عجينة الخبز البلدي الطري، ولونه بني، و«العيش الشمسي» المنتشر في الصعيد والسويس، لأن أكثرية أهل السويس من أصول صعيدية، وهو أسمر، ويؤكل طريا طازجا، أو يقطع لشرائح ويحمص في الفرن. وينتشر «خبز الشعير» بالوادي الجديد خاصة في الخارجة، و «البتاو» وهي كلمة مصرية قديمة تعني الخبز، يختلف من مكان لآخر، ففي مناطق يسمون« البتاو » المرحرح، وفي الشرقية تطلق علي الرقاقات صغيرة الحجم المصنوعة بالدقيق واللبن، و « الهبورية والكسرة»، خبز من الذرة والردَّة والقمح، والكسرة أكثر انتشارا في البحر الأحمر بجانب «العيش الشمسي» الذي يسمي « أبو قرون» أو «أبو جرون»، و«الدامبرت» يُخبز علي الحجارة في منطقة حلايب، و«الشدي» خبز من الذرة والقمح وسُمكه رقيق، ويُخبز علي «الدوكا» الصاج في توشكي بأسوان، و«الخنريت» من دقيق الذرة العويجة والقمح ويسمي«الدوقة» في منطقة كلابشة بأسوان، و«الكابد » مثل «الشدي» لكنه أسمك، ويوجد بتوشكي أيضا، و« الصاج » من دقيق القمح وينتشر في أبو طويلة بشمال سيناء، و«المجردق» يُصنع دون خميرة، ويُسوَّي علي الصاج، ويشبه الرقاق، ويؤكل طريا، وينتشر في مطروح. وهناك حكاية عن «جمال عبد الناصر» في بداية ثورة يوليو، في أثناء جولته بالقطار في محافظات الصعيد، وكان القطار يقف في كل محطة ويلوح عبد الناصر بيديه للناس، وفي إحدي المحطات أراد أحد عمال التراحيل أن يقول شيئاً للرئيس فلم يتمكن من الوصول إليه، فألقي إليه بمنديله المحلاوي، وتلقفه عبد الناصر، وفتحه فوجد فيه (بصلة ورغيف عيش بتاو)، ولم يفهم الحضور سبب إلقاء العامل منديله بمحتوياته، لكن عبد الناصر أطل برأسه من القطار ورفع صوته باتجاه صاحب المنديل:« الرسالة وصلت يا أبويا، الرسالة وصلت». وبمجرد وصوله إلي أسوان أصدر قانون عمال التراحيل، وحدد الحد الأدني والأقصي للأجور، وفي خطابه أمام جماهير أسوان قال : «أحب أقول إن الرسالة وصلت، وأننا قررنا زيادة أجر عامل التراحيل إلي 25 قرشا في اليوم بدلا من 12 قرشا، كما تقرر تطبيق نظام التأمين الاجتماعي والصحي علي عمال التراحيل لأول مرة في مصر».