أعادنى إلى عالم الشعر الرحيب الأستاذ «عصام زكريا» والذى نشر مقالة جميلة فى مجلة البوابة عن «كاڤافيس». «كاڤافيس» شاعر يونانى سكندرى عاش وأقام فى الإسكندرية، وهو شاعر فريد لأن قصائده التى تسنتد إلى التاريخ أحيانا مترعة بالحكمة المصفاة. قرأت ديوان «كاڤافيس» فى ترجمته الإنجليزية منذ زمن، وداومت على قراءة قصائده إلى ان شغلتنى الكتابات السياسية والفكرية ودفعتنى بعيدا عن الشعر. واليوم بعد قراءة مقال «عصام زكريا» عدت إلى قراءة «كاڤافيس» مرة أخرى. وهذا الشاعر الفريد له قصيدة شهيرة عنوانها «فى انتظار البرابرة» لها دلالات سياسية بالغة العمق. فقد حكى فيها أنه فى مدينة قديمة سرت شائعات بأن «البرابرة» قادمون لغزو البلاد. ولذلك بادر الحاكم منذ الصباح الباكر بارتداء ملابسه الرسمية المرصعة بالأوسمة، وخرج إلى الحدود فى موكب يضم كبار الأعيان وأعضاء النخبة السياسية لكى يستقبلوا البرابرة حين يصلون لغزو البلاد حتى يرحبوا بهم!. وانتظر الحاكم من الصباح المبكر حتى المساء ولكن لم يصل البرابرة. وقال الحاكم لحاشيته لم يأت البرابرة مع أن قدومهم وغزوهم لبلادنا كان حلا من الحلول!. تذكرت قصيدة «كاڤافيس» وأنا أضع اللمسات الأخيرة فى كتاب سيصدر لى قريبا عن «دار العين» عنوانه «نقد الفكر الدينى». والكتاب فى الواقع ثمرة تراكم فكرى طويل لأنه يضم –بين ما يضم- مناظرة تمت على صفحات الأهرام فى منتصف التسعينيات بينى وبين الشيخ «يوسف القرضاوى» دارت حول نقدى لأوهام إحياء الخلافة الإسلامية. ولو رجعنا لقصيدة «كاڤافيس» فى «انتظار البرابرة» لاكتشفنا أن موضوع قبائل البرابرة التى اندفعت فى عصور تاريخية قديمة لغزو الممالك والبلاد المستقرة شغل المؤرخين المعنيين بتتبع نشأة وانهيار الإمبراطوريات والممالك، والدور الفعال للبرابرة فى هذا الانهيار. غير أن موضوع «البربرية والحضارة» برز فى الخطابات السياسية والفكرية فى عصر الاستعمار الأوروبى لعديد من البلاد الإفريقية والعربية. وقد اهتم المفكرون من أنصار الاستعمار وبعض الأدباء الغربيين بالتنظير للاستعمار على أساس أن له دورا أساسيا يقوم به «الرجل الأبيض» لتمدين «الهمج والبرابرة» الذين ليسوا بيضا وليسوا مسيحيين، وأطلقوا على ذلك نظرية «عبء الرجل الأبيض». وفى أحد فصول الكتاب عالجت موضوع تاريخ خطاب البربرية فى مواجهة الحضارة، لأنه بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، التى وجهت لمعاقل القوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية ظهر فى خطابات الرؤساء «جورج بوش» و»جاك شيراك» و»تونى بلير» وغيرهم من كبار السياسيين الغربيين موضوع «البربرية» والذى كان قد اختفى من الخطاب السياسى الغربى فى نهاية المرحلة الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية. وقد أشار هؤلاء الرؤساء إلى أن الهجوم على الولاياتالمتحدةالأمريكية هجوم على الحضارة الغربية بواسطة مجموعات من «البرابرة» ويقصدون بذلك الإرهابيين الإسلاميين. بل إن الهجوم على التنظيمات الإرهابية مثل «تنظيم القاعدة» تجاوز كل الحدود لأن الإسلام كدين وجهت له الانتقادات على أساس أنه دين يحض على العنف. ما الذى جعلنى أدرس موضوع البربرية والحضارة؟ لأننى اكتشفت ما يطلق عليه الآن فى بحوث العلم الاجتماعى ما يطلق عليه «البربرية الجديدة». وقد تمت صياغة هذا المفهوم الجديد فى سياق نقد سلوك تنظيم «داعش» الإرهابى والذى -عكس كل التنظيمات الإسلامية. الإرهابية السابقة –يفتخر علنا باتباعه وسائل بربرية فى التعامل مع الرهائن والأسرى وذلك بقطع رقابهم أو إحراقهم أو إغراقهم. ليس ذلك فحسب بل يعمد هذا التنظيم الإرهابى» والذى تحول على يد «أبو بكر البغدادى» إلى خلافة إسلامية تمتد من سوريا إلى العراق- إلى تصوير مشاهد قطع الرؤوس والحرق والإغراق وإذاعتها على العالم. وقيل فى تفسير هذا السلوك الشاذ إن الغرض منه بث الرعب فى نفوس الأهالى الخاضعين لسيطرة الخلافة الداعشية أو فى نفوس الأجانب بشكل عام من الذين يتبنون موقفا معاديا لها هم ودولهم التى قررت الاشتراك فى تحالف لمواجهة هذا التنظيم الإرهابى. غير أننى فى غمار عملية البحث عن «نقد الفكر الدينى بين التشدد والتجدد» اكتشفت مصادفة فى الواقع على شبكة الإنترنت كتابا عنوانه «إدارة التوحش أخطر مرحلة ستمر بها الأمة» كتبه المنظر لتنظيم القاعدة واسمه الحركى «ابو بكر ناجى» واسم المؤلف الحقيقى «خليل الحكايمة» والذى قتل سنة 2008. وإذا كان الكتاب قد صدر قبل ظهور داعش وإعلان الخلافة الإسلامية فى بلاد الشام إلا أنه فى الواقع عبارة عن تنظير كامل لما أطلق عليه «إدارة التوحش» والتى هى وصف دقيق لممارسات تنظيم داعش والذى تحول إلى خلافة إسلامية. وخطورة الكتاب أن مؤلفه يتحدث عما يسميه «إدارة التوحش» باعتبارها مرحلة من «مراحل التمكين الإسلامى للوصول إلى إعلان الخلافة الإسلامية بصورة رسمية حين تكتمل مراحل الجهاد. ولو حللنا نظرية «أبى بكر ناجى» فى إدارة التوحش لاكتشفنا أنه يعتبرها نظاما متميزا من أنظمة الحكم، وليس هناك ما يدعو إلى استنكاره أو نقده لأنه –كما قلنا- يعبر عن مرحلة أساسية لابد أن يمر بها المسلمون لإقامة دولة الخلافة الإسلامية. يقول «أبى بكر ناجى» وأنا اقتطف من عباراته مع الاعتذار عن طول الاقتباس: «قلنا فيما سبق أن المتأمل فى القرون السابقة وحتى منتصف القرن العشرين يجد أنه عند سقوط الدول الكبرى أو الإمبراطوريات- سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية- ولم تتمكن دولة مكافئة فى القوة أو مقاربة للدولة السابقة من السيطرة على أراضى ومناطق تلك الدولة التى انهارت تتحول بالفطرة البشرية مناطق وقطاعات هذه الدولة للخضوع تحت ما يسمى بادارات التوحش.. لذلك نعرف إدارة التوحش باختصار شديد بأنها «إدارة الفوضى المتوحشة».!! ويتساءل المؤلف لماذا أطلقنا عليها (إدارة التوحش) أو (إدارة الفوضى المتوحشة) ولم نطلق عليها (إدارة الفوضى)؟ «ذلك لأنها ليست إدارة لشركة تجارية أو مؤسسة تعانى الفوضى أو مجموعة من الجيران فى حى أو منطقة سكنية أو مجتمعاً مسالماً يعانون من الفوضى، ولكنها طبقا لعالمنا المعاصر يكون الأمر أعم من الفوضى. بل إن منطقة التوحش قبل خضوعها للإدارة ستكون فى وضع يشبه وضع أفغانستان قبل سيطرة طالبان.. منطقة تخضع لقانون الغاب بصورته البدائية يتعطش أهلها لمن يدير هذا التوحش بل ويقبلون أن يدير هذا التوحش أى تنظيم أخياراً كانوا أو أشراراً». وهكذا تكتمل نظرية «إدارة التوحش» والتى تصلح تفسيرا لسلوك الخلافة الإسلامية الداعشية. ودلالة ذلك- عكس ما قاله «كاڤافيس» فى قصيدته أن البرابرة وصلوا بالفعل إلى المدينة!. لمزيد من مقالات السيد يسين