هل كان ذلك مفاجئا جدًا بالفعل؟ أن نستيقظ يومًأ لنجد تنظيمًا علي هذه الدرجة من الرعب يبدو قادرًا علي الوصول إلي أي مكان يريده؟ الأغلب لا، مثل مرض صامت ينمو ويتمدد كان داعش موجودًا طوال الوقت، ربما حتي قبل أن يفكر قادته ومنظروه في خلقه، كل وقائع ربع القرن الأخير كانت تبشر به، وربما الأمر أبعد من ذلك، تاريخنا وثقافتنا كان لابد لها أن تثمر شيئًا كهذا، تنظيمًا قد نرفض ممارساته وإيدولوجيته علنًا، لكن سرًا، نحن ساعدنا علي بنائه، وعلي تقوية شوكته، كراهيتنا وتعصبنا وانحيازاتنا العمياء هي الهواء الذي تنفسه ليتضخم بدرجة تهدد المباديء الإنسانية الهشة التي نعتز بها دون إدراك أنه لم يعد لها من تطبيق علي الأرض. هذه الأيام صدر كتابان يمكن من خلالهما فهم قصة داعش كاملة (عوضًا عن هذا الجهل المزري، والتحليلات البائسة التي يتصدرها أن التنظيم مجرد لعبة مخابراتية) الكتاب الأول "داعش.. عودة المجاهدين" للصحفي المعروف باتريك كوكبيرن، يبدو محايدًا إلي حد كبير، يحاول أن يجيب عن سؤال أساسي، سؤال اللحظة للعالم كله.. ما الذي جعل الأمور تسوء إلي هذا الحد؟ ينطلق في ذلك من وجهة نظر غربية محيطة بأحداث وتفاصيل وأسرار هذه المنطقة في لحظتها الحالية البالغة التعقيد. الثاني يدعي الحياد لكنه ليس كذلك بأي شكل، يمكن من عنوانه معرفة ميول صاحبه التي يحاول جاهدًا تبريرها "الدولة الإسلامية.. الجذور، التوحش، المستقبل" للصحفي المعروف أيضًا عبد الباري عطوان. غير أن تورط المؤلف لم يكن مضرًا بمادة الكتاب، بل علي العكس ربما أثمر ذلك نتيجة إيجابية، فكتابه أكثر ثراء، ومحاولته لرصد الوقائع أكثر شمولية. بداية من الاسم.. داعش عند كوكبيرن، والدولة الإسلامية لدي عطوان، يمكن استيعاب الكثير من الأمور ليس فقط عن توجهات الرجلين، إنما الأهم عن طبيعة هذا الكيان الذي أصبح "كابوس العالم".. هل هو تنظيم أم دولة؟ لا تشغل التسمية بال كوكبيرن علي الإطلاق.. يبدو أنه لا سؤال من الأصل للإجابة عنه، داعش مجرد اختصار لاسم الدولة الإسلامية، وكلاهما يدلان علي جماعة جهادية استغلت ظروفًا سياسية معقدة لتحقيق نجاحات باهرة في زمن قصير للغاية. لكن عند عطوان الأمر مختلف تمامًا، الرجل يتبني اسم "الدولة الإسلامية" الذي اختاره التنظيم لنفسه، والاختيار هنا ليس فقط لأن رجال التنظيم يكرهون تسميتهم "داعش" فيصبح حقهم، كما دفع عطوان في أحد البرامج التليفزيونية ردا علي أحد الضيوف "هل تقبل أن أناديك باسم غير اسمك؟" لا، هو يفرد فصلا في مقدمة كتابه ليقنع قارئه بأن داعش دولة، وأن السياسيين ووسائل الإعلام العالمية، ومعهم حكومتا العراقوسوريا أيضا، لم يعطوا ظاهرة إنشاء الدولة الإسلامية العناية والمصداقية التي تستحقها، وكأنها مازالت مجموعات مسلحة لم تسيطر علي مساحات شاسعة من الأرض وليست لديها طموحات توسعية، ومازالوا يطلقون عليها مسمي "ما يعرف بالدولة الإسلامية". وسعيا لإقناع قارئه يلجأ عطوان إلي القانون الدولي ليبحث في تعريف الدول وكيفية نشوئها ليري إن كان الأمر ينطبق علي داعش أم لا، وهو بشكل ما مقتنع بهذا، لكنه لا يخوض في النقاش طويلا ربما حتي لا يتورط في أسئلة صعبة، فيكتفي بالتدليل علي رؤيته بأن داعش لديها مفردات المعادلة التي تسمح لها أن تكون دولة (أرض تسيطر عليها + حدود + مواطنين + حكومة قادرة علي ممارسة سلطاتها= دولة إسلامية). وعلي الرغم من محاولة عطوان إضفاء صفة الدولة علي داعش لكنه يبدو مجرد اجتهاد لا غرض منه إلا تمرير الفكرة للقارئ، أن "الدولة الإسلامية" ليست مجرد جماعة ارهابية، أو جهادية في أحسن الأحوال، فمثلما لن يهتم المجتمع الدولي بفرضية عطوان لا يهتم بها الدواعش أيضا، لا يعنيهم القانون الدولي ومبادئه، لكنهم يضعون نصب أعينهم مفهوم الخلافة السنية والتي يري السلفيون أن لها شروطا ثلاثة ضرورية لتحققها: الإيمان (الإسلام بالمفهوم السلفي)، الهجرة (هجرة المسلمين من الدول الكافرة إلي مجتمع المؤمنين)، وأخيرا الجهاد (من أجل إقامة الدولة الإسلامية للأمة)، ويوضح المؤلف أن هذا يفسر سبب هجرة تلك الأعداد الكبيرة من المقاتلين الأجانب إلي سورياوالعراق حيث تقوم ماكينة الدعاية الداعشية بتصويرهم أحيانا وهو يحرقون أو يمزقون جوازات سفرهم فور وصولهم لدولة الخلافة. دعوات الجهاديين إذ للانضمام لمغامراتهم ليس الغرض منها ضم مقاتلين جدد بقدر ما هي الرغبة في تلبية أحد الأسس المطلوبة لقيام الخلافة، وهو ما جعلهم يركزون عليها علي مدي أكثر من عقد من الزمن، ومنظرو داعش يرون أن المراحل الثلاث لإعادة إنشاء الخلافة بلغت الآن مرحلة متقدمة جدا للدرجة التي تسمح لهم بإعلان قيام (الدولة الإسلامية)، وهنا يشير عطوان إلي الخلاف بين داعش والقاعدة التي تري أن هذا الإعلان سابق لأوانه. خلافة الدم من الضروري استبعاد وجهات النظر الإعلامية السطحية عند التعامل مع داعش وغيرها من الجماعات الجهادية المختلفة، فقصر الأمر علي مصطلح مغلق مثل "الإرهاب" يجعلنا لا نري من الصورة سوي وجه واحد، وهو الأسهل، أننا نتعامل مع مجموعة من القتلة الذين يريدون تدمير كل شئ في طريقهم، وبقدر ما قد نرفض ما ذهب إليه عبد الباري عطوان في كتابه من أن داعش دولة بعد أن اكتملت لها كل العناصر المحققة لها، إلا أنه في الوقت نفسه لا يمكن تجاهل التطور الذي وصل إليه المشروع الجهادي السلفي بتلك الخطوة، فذلك التنظيم وأفراده ليسوا مجموعة من المقاتلين الذين يحملون السلاح ويختفون في الكهوف، بل لديهم القدرة علي إدارة مشروع كامل وفق مخطط سابق، وإذا كانت البنية الإدارية التي يعتمدون عليها معروفة سلفا لدي القاعدة وطالبان وحركات أخري مثل "الشباب الصومالية، إلا أنهم ذهبوا بها بعيدا بحيث تكون قادرة علي التعامل مع الأراضي الواسعة، والتي لم يحدث من قبل أن حظيت بها جماعة متمردة وخارجة علي القانون الدولي. يتكون الهيكل الإداري للدولة المزعومة من الخليفة أبو بكر البغدادي الحسيني القرشي، والذي يعد السلطة العليا علي اعتبار أنه ممثل للرسول، مثل بقية الخلفاء السابقين عليه بدءا بأبي بكر الصديق، للبغدادي نائب وهو أبو مسلم التركماني والذي كان عقيدا في الاستخبارات العسكرية في جيش صدام حسين، ووفق المؤلف فإن الاعتقاد بأن التركماني يشرف علي الولاياتالعراقية. تحت الخليفة، ومن بعده نائبه، هناك مجالس متعددة تشرف علي أوجه مختلفة من أوجه إدارة الدولة هناك المجلس العسكري، والشرعي، والشوري، والدفاع والأمن والاستخبارات، والاقتصادي، والتعليمي، وأخيرا الإعلام العمومي. ولكل مجلس من تلك وظيفة محددة تتشابه مع وظائف في وزارات أي دولة طبيعية، لكن الخلاف هنا في كيفية الإدارة والتوجه، وأيضا في العقوبات علي المخالفين، فالمجلس الشرعي علي سبيل المثال يتعامل مع الشئون القضائية لكنه أيضا يضمن نقاء الدين داخل الدولة من خلال إشرافه علي المساجد، وعبر التنبيه علي مواعيد الصلوات، والزي الشرعي، وكيفية التصرف في الشوارع، ولعلنا هنا نتذكر نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما يقودنا إلي أسباب التعاطف مع داعش في بلاد عربية بعينها، وهو ما يوضحه عطوان لاحقا، ويتفق معه فيه باتريك كوكبيرن. لدي داعش إذ الطموح في إدارة دولة بمختلف تفاصيلها، دولة تتعامل مع شئون الرعية في الأسواق بحيث لا يكون هناك غش، ولديها نظام صحي بما في ذلك اعطاء اللقاحات في مواعيدها، وكذلك سياسة تعليمية، بالطبع تفصل بين الجنسين لكنها لا تمانع في تعليم الفتيات، غير التعليم بشكل عام لابد أن يكون منسجما مع التفسير السلفي الصارم للقرآن وعلي هذا فقد تم حذف بعض المواد التي لا تتناسب مع ذلك، بما فيها نظرية التطور والنشوء في علم الأحياء والفلسفة. لكن التشدد الذي تنتهجه داعش مع مواطنيها (الذين لم يأخذ أحد رأيهم قبل أن يحملوا هذه الصفة) لا يبدو أنه ممارسة دينية فقط بقدر ما هو محاولة لفرض شكل ما باستخدام العنف تحت غطاء ديني، الممارسات التي التي تشبه أفلام الرعب المنتجة في هوليوود والتي يبثها التنظيم علي الانترنت ليست نتاج مجموعة من المهووسين كما يبدو عليه الحال، الأكثر رعبا أن تلك الأفعال تقف وراءها نظرية متكاملة يتم تطبيقها وفق منهج ودراسة. باتريك كوكبيرن يلخص الأمر في أحد فصول كتابه بشكل رائع "العنف يجذب جمهورا أكبر" وهذا بالطبع يتزايد عندما يتم تصوير الأمر من قبل الطرفين علي أنه صراع بين الخير والشر، ورغم أن كوكبيرن يؤكد أن الكثير مما يجري في ميدان المعارك والصراعات يتم تشويهه ونقله محرفا، وحتي أن بعضه كاذب من الأساس (تلك القصة عن حوادث الاغتصاب في ليبيا بأوامر من القذافي لقمع الثورة لم تكن أكثر من فخ دعائي كاذب استطاع أن ينجح بقوة) لكن النظرية نفسها ناجحة للغاية، والجهاديون برعوا في استخدامها مؤخرا، ساعدتهم في ذلك التقنية والتكنولوجيا الحديثة التي يملكون مفاتيحها بصورة مبهرة، وكما يعبر كوكبيرن: الجهاديون وإن كانوا يحنون إلي منابع الإسلام الأصلية، إلا أن مهاراتهم في استعمال وسائل الاتصال الحديثة والإنترنت متقدمة علي معظم الحركات السياسية في العالم. وبإنتاجها سجلا بصريا لكل شئ تقوم به، فإن داعش تضخم بذلك تأثيرها السياسي. استراتيجية التوحش يتطرق عبد الباري عطوان بدوره إلي مسألة العنف الداعشي تلك بمزيد من التفصيل، لكنه يوجد لها أولا الأرضية المناسبة، أن ذلك العنف هو جزء من تاريخ الحروب في التاريخ الإنساني، ويلجأ في هذا إلي دونالد جي. داتون وكتابه "علم نفس الإبادة الجماعية، المذابح والعنف المفرط" مفسرا أن الدافع الأساسي للقيام بأعمال عنف خلال الحرب إلي وجود عاطفة قبلية تنتج طاقة غضب شديد وعنف إبادي الرغبة في إبادة شعب بأسره. وفي هذا السياق يستعرض عطوان المذابح التي ارتكبتها دول وحضارات مختلفة، لنفهم أن بناء دولة ما لا يعتمد علي الأفكار فحسب وإنما الأهم علي الدماء والمذابح، لا فرق في ذلك بين القرن الحادي عشر أو العشرين (مازال الإنسان هو ذلك الهمجي الذي يسعي لقتل أخيه.. الفارق الوحيد أنه بات قادرا علي الاحتفاظ بسجل مصور لأفعاله). غير أن المهم في كتاب عطوان والخاص بهذه النقطة هو إدراك داعش للتاريخ، وإلمامها بأن العنف هو جزء أساسي في الحرب النفسية، والتي تمكنها من إحراز نجاحات ساحقة بأقل قدر من المجهود. وهنا يذكر عطوان بأن استراتيجية التوحش استخدمها رجال نعرف عنهم الوداعة واللين مثل أبي بكر الصديق الذي لم يتردد في التعامل بدموية ودون رحمة مع المرتدين الذين رفضوا دفع الزكاة، وحينما عارض عمر بن الخطاب المعروف بشدته وبأسه هذا كانت مقولة الخليفة أبي بكر الشهيرة: "مالي أراك شجاعا في الجاهلية خوارا في الإسلام". ومن أبو بكر إلي الأمويين الذين قتلوا الحسين حفيد الرسول وكان منهم الحجاج بن يوسف الثقفي وزياد بن ابيه وتاريخهما في هذا المجال حافل. ومن بعدهم السفاح أبو العباس المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، ثم هناك تاريخ الوهابية وإنشاء الدولة السعودية وما جري مع العثمانيين.. وهنا يعود المؤلف إلي 1801 العام الذي هاجمت فيه القوات السعودية كربلاء وقتلوا آلاف الشيعة، ونبشوا المراقد والأضرحة بما فيها قبر الحسين. وبعدها بسنوات تم اعتقال الملك عبدالله آل سعود من قبل العثمانيين وأرسل مكبلا إلي اسطنبول ليتعرض إلي الإهانات في الشوارع لثلاثة أيام قبل أن يشنق بعدها، وقطع رأسه وتحويله إلي قذيفة مدفع، ونزع قلبه ووضع فوق صدره. (كل هذا التاريخ غالبا يعود للبعث من جديد الآن في قلب المنطقة، وكأننا منذ مقتل الحسين لم نتحرك خطوة إلي الأمام). لكل ما يقوله عطوان، وغيره، قلت في المقدمة إن داعش هي نتاج تاريخنا وثقافتنا، الفارق فقط أنها لا تخجل مما تفعل ولا تدعي التحضر، تؤرخ لتوحشها وعنفها وتضع نظريات وكتبا تبين الطريق الذي تسير عليه.. ولا يهم في هذا الصدد المقارنة بين أفعالها وبين ما تقوم به عصابات المخدرات في المكسيك، التي ترعب، علي حد تأكيد المؤلف، مناطق الحدود مع الولاياتالمتحدة، ولأجل ذلك تنشر صورا مرعبة علي شبكات التواصل الاجتماعي عن عنف بالغ البشاعة تقوم به من أجل تحذير خصومها من الثمن الغالي للمس بمصادر دخلها. ما الفارق بين داعش وبين عصابات المخدرات في المكسيك، كلاهما يستخدم الأساليب نفسها.. قطع الرؤوس، ما الفارق بين داعش وإسرائيل، كلاهما استخدم أقصي درجات العنف كحرب نفسية لإقامة دولته، ما الفارق بين داعش وبين عصابات تجارة الرقيق، كلاهما يبيع النساء والقاصرات، بل وتميز رجال داعش في هذا المجال وفعلوا ذلك علنا.. سوقا لتجارة الإماء.. داعش هي الكوكب المظلم بطاقة سلبية هائلة تجر كل ما حولها إلي فجوة زمنية مخيفة. كل هذا العنف يمثل المرحلة الثانية لإقامة الدولة الإسلامية بحسب ما يوضح عطوان، وصاحب النظرية برمتها أحد منظري القاعدة ويدعي أبو بكر الناجي أو محمد خليل الحكايمة، وكان مقربا من أيمن الظواهري قبل مقتله في ضربة أمريكية علي وزيرستان عام 2008. نحن نقول دوما أن الإسلام لم ينتشر بحد السيف. حسنا هذا كلام الإعلام والشيوخ المعتدلين، لا يؤمن الجهاديون بذلك. الرسول كان قائدا عسكريا، باستثاء ال13 عاما الأولي في مكة حيث كان يدعو إلي اللا عنف، لكنه اضطر إلي الهجرة، وهو ما علينا أن نفعله، بحسب الناجي ومن يؤمن بتنظيره، النبي محمد لم يقف العنف أمامه عائقا فقد فهم قوة الخوف. ضمن ولاء مناصريه من خلال العقاب العلني للخونة، وكان الإعدام عقوبة من يرتد منهم عن الإسلام، كما تم اغتيال العديد من أعدائه السياسيين، ولإثارة الرعب في قلوب الكفار أعلن النبي محمد الحرب عليهم قائلا "جئتكم بالذبح". (هو نفسه محمد الذي لا يأتي ذكره علي ألسنة شيوخنا سوي بأنه نبي الرحمة، والتسامح والعدل. والمشكلة بالطبع ليست في شخص النبي بقدر ما هي في قراءة التاريخ وتفسيره، والتركيز علي جانب واحد عند كل طرف). وفق تلك الصورة عن النبي يصبح من المنطقي، ولإعادة دولة الخلافة التي دامت 1300 عام قبل سقوطها عام 1922، اللجوء لأقصي درجات العنف، بعد استنزاف العدو (أمريكا والدول الحليفة) بالتهديدات والإرهاب، واستنزافه اقتصاديا عن طريق الحروب حتي ينفجر من الداخل بدعم من عناصر أخري منها: الانهيار الأخلاقي، انعدام المساواة الاجتماعية، الجشع، إعطاء الأولوية للمتع الدينية. المرحلة الثانية كما يصفها ناجي، وينقلها عطوان عنه، هي الأخطر، يبدو ذلك من اسمها "إدارة التوحش" والتي يقوم فيها الجيش الإسلامي بتدمير أي شئ يقف في وجهه، مع استفزاز الأمريكيين بكل السبل للقتال علي الأرض الإسلامية، والنتيجة المضمونة لذلك هي ما حدث مع الروس، ذلك أن الأمريكيين وصلوا إلي مرحلة من التخنيث لا تسمح لهم بتحمل المعارك لوقت طويل. منطقة الحرب ستصبح منطقة توحش ينشط فيها السلفيون والجهاديون تخضع لقانون شريعة الغاب بشكلها البدائي، وبالنسبة للمساكين الذين يعيشون فيها سيتوقون إلي أحد يدير هذا التوحش، ومن سيكون سوي الدولة الإسلامية. كيف الوصول إلي هذا الهدف؟ الإفراط في العنف، زيادة التوحش ستؤدي إلي ارتفاع سمعة المجاهد ومنزلته عبر موجات من العمليات ستملأ قلوب الأعداء بالخوف وهذا الخوف سيكون بلا نهاية. وفق ناجي وكتابه فإن العباسيين نجحوا بسبب عنفهم وفشل الآخرون بسبب اللين وحفاظهم علي الدماء. (هل يمكنك تخيل مستقبل السنوات المقبلة.. خريطة الشرق الأوسط وقد غطتها الدماء). تحضير العفريت والفشل في صرفه هذا مثل موحٍ للغاية، وينطبق تماما علي الحالة داعش. يتفق باتريك كوكبيرن، وعبد الباري عطوان علي أن هناك أسباباً متعددة وراء نشوء تنظيم الدولة، ولا يكاد المؤلفان يختلفان في سبب واحد، علي رأس كل ذلك بالطبع الغباء الأمريكي والغربي في التعامل مع العالم العربي وأزماته، أو بالأحري خلق أزماته. كوكبيرن يلخص الأمر بأن العراق تفكك والأمر الوحيد الذي تتبادله مكوناته الكبري الثلاثة، الشيعة والسنة والكرد، فيما بينها هو إطلاق النار. فكك الغرب العراق منتظرا تحقق الديمقراطية دون إدراك للكارثة التي ستحدث، ثم عاد ليكرر الخطأ ذاته مع سوريا، بمساعدة دول عربية هذه المرة، ليسارع الجهاديون في انتهاز فرصة الفراغ الأمني والفوضي للاستيلاء علي مساحة ضخمة من الأرض تماثل حجم دولة بريطانيا. بالتفصيل يوضح كوكبيرن كيف انهزم الجيش العراقي، الذي أنفقت عليه أمريكا ما يقرب من 42 مليار دولار خلال ثلاث سنوات، أمام 1300 مقاتل، لا غير، من داعش، ليفقد العراق عاصمته الشمالية، مدينة الموصل. كلمة السر الأول في نجاح داعش كانت رئيس الوزراء نوري المالكي، الشيعي، الذي فعل كل ما في وسعه لتهميش السنة ليدفع، وبتعبير كوكبيرن، المجتمع السني إلي أحضان داعش. يضاف إلي ذلك أن العراق لا يملك جيشا علي الإطلاق، ربما لأن الفساد أطاح بكل مؤسسات الدولة، ويورد المؤلف قصصا غاية في الغرابة عن ذلك بدءا من رئيس الوزراء الراحل وانتهاء بأصغر جندي في الجيش الذي من الطبيعي أن يفر من المعركة ويترك سلاحه ويخلع ملابسه لينجو بحياته، إذا كان قادته يستولون علي الأموال المخصصة لإطعام الجنود وتسليحهم. لكن ذلك ليس كافيا لخلق هذا الوحش، لابد من جهة ما قدمت الدعم والتوجيه علي الأقل في المراحل الأولي، بالطبع، ومن سيكون غير السعودية، المملكة الوهابية الثرية بنفط يجعلها تتمتع بسلطة ونفوذ في الشرق الأوسط وخارجه. وما حدث في العراق، والذي لم يدركه الكثيرون، أن وجود حكومة شيعية علي رأس السلطة هناك كان الانقلاب الأول في العالم العربي منذ أطاح صلاح الدين الأيوبي بالدولة الفاطمية في مصر عام 1171، هذا التحول التاريخي الجديد تسبب بذعر كبير في الرياض وعواصم سنية أخري، فأراد حكامها أن يقلبوا تلك الهزيمة التاريخية. بالنسبة لكوكبيرن فإن السعودية وحكومات ملكية سنية زودت ومولت أمراء الحرب الجهادية في سوريا، وهو الدعم نفسه الذي تم تقديمه للقاعدة وبن لادن سابقا، لاحقا، أدركت السعودية الخطر المحدق بها إذا ما قرر هؤلاء الجهاديون العودة لأراضيها فسعت إلي وقف مغادرة المقاتلين السعوديين إلي سوريا، وصدر مرسوم ملكي مفاده أن مشاركة السعوديين في أي صراع أجنبي يعتبر جريمة. غير أن ذلك لم يكن كافيا، فلم يعد هناك من سبيل لإعادة الوحش الذي تم خلقه. نفس الرأي يذهب إليه عطوان، لكنه يوضح العلاقة بين السعودية وبين الإسلام السياسي وممثلها الأقوي حاليا داعش، بشكل أكثر وضوحا، كيف أن مرجعية الطرفين واحدة، المعتقدات الوهابية، ومع ذلك تلتقي الأهداف حينا وتفترق كثيرا، السعودية التي تعمل علي نشر الوهابية، تعمل في ذات الوقت علي كبح جماحها حتي لا ترتد إليها، فتنظيم داعش يري أن النظام السعودي يضع عباءة الدين ليخفي ويبرر كل أنواع الآفات التي يقوم بها، والأكثر أهمية أن التنظيم يرفض قبول الملك السعودي كزعيم للمسلمين ويري أن المنصب يعود إلي الخليفة البغدادي. وكأن تلك العلاقة تحتاج للمزيد من التشابك ليدخل إليها الأمريكيون بشكل خاص والغرب بشكل عام، فهذا الطرف علي علم كامل بما تقدمه السعودية للجماعات الجهادية، منذ طالبان والقاعدة، بل إن هذا كان بتشجيعه في البداية ضد الاتحاد السوفيتي، غير أن هذا الغرب يحجم عن انتقاد السعودية وحلفائها علنا نظرا إلي المستوي العالي من التعاون في مجال الأعمال. يقول عطوان إن هوس النظام السعودي بالتهديدات بأنه يواجه خطرا مصيريا من إيران في البدء ثم لاحقا من الإخوان المسلمين، جعله يقع في أخطاء لسنوات طويلة في ما يخص تنظيم القاعدة والآن تنظيم الدولة الإسلامية. وهنا ينقل عطوان عن كوكبيرن ما قاله له السير ريتشارد ديرلوف، المدير السابق لجهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني بأنه ليس لديه شك في أن التمويل الكبير الذي جاء ومازال من متبرعين في السعودية، والذي غضت السلطات الطرف عنه، لعب دورا مركزيا في زحف الدولة الإسلامية في العراق والشام علي المناطق السنية في العراقوسوريا. أخطر رجل في العالم يمكن تسميته أيضا بالرجل الخفي، هذا بالطبع بالنسبة إلينا، إنما أمام أتباعه فهو خليفة المسلمين، له تتم البيعة والمخالفين ينتظرهم عقاب لا يرحم. يتفق كوكبيرن وعطوان علي أن الرجل، المعروف عالميا بأبي بكر البغدادي، اعتمد السرية سلاحا، الأسري الذين سجنوا لدي تنظيم القاعدة في العراق لم يلتقوه أبدا، ومن التقوه لم يروا وجهه المختفي خلف قناع. اسمه الحقيقي عواد إبراهيم علي البدري السامرائي (يستبدل عطوان لقب السامرائي بالقرشي، وهي تفصيلة بالغة الدلالة، فالانتساب إلي قريش أحد المؤهلات لتولي الخلافة). من ضمن الأسماء التي يعرف بها: أبو دعاء، الدكتور إبراهيم، عواد إبراهيم، الشبح، والشيخ المخفي. وينقل عطوان عن شخص سجن معه قرابة العامين، أن البغدادي، كان دوما هادئا ومتمالكا نفسه، يملك شخصية كاريزماتية جدا بحيث أنك إذا جلست معه في الغرفة واستمعت إليه يتحدث فإنه من الصعب أن لا تتأثر به وبأفكاره ومعتقداته. علي الرغم من ذلك، يقول عطوان، فهذا القائد الهادئ لا يبدو أنه من النوع الذي يسامح أو ينسي بسهولة، فقد عارضه شخصان فقط من أعضاء مجلس الشوري الذي اجتمع لاختيار خليفة لأبي عمر البغدادي، الذي اغتاله الأمريكيون العام 2010، وقد تم قتل أحد هذين المعارضين بعد اختيار أبو بكر خلفا لأبو عمر. علي عكس بن لادن والظواهري اللذين جاءا من خلفية مهنية، فإن البغدادي درس في الجامعة الإسلامية ببغداد، ومنها حصل علي الدكتوراة في الفقه والتاريخ والثقافة الإسلامية، وتلك الدراسة كما يري عطوان تمنحه شرعية أكبر في سعيه لتثبيت نفسه كمرجعية إسلامية، إضافة لكونه قائدا عسكريا وزعيما سياسيا. يملك البغدادي خبرة عسكرية تؤهله لقيادة المعارك والتخطيط لها، كما أنه يتصف بالجرأة ولا دلالة علي ذلك أكثر من استغلاله الفوضي في سوريا لتأسيس فرع لجماعته هناك، وأيضا إعلانه المفاجئ عن نفسه كخليفة رغم أن القاعدة تري أن أوان ذلك لم يحن بعد. والمؤكد أن البغدادي استطاع أن يجعل من "داعش" الجماعة الأكثر رعبا علي مستوي العالم، وأن يستقطب لها من الأتباع والمهووسين ما لم يتحقق للقاعدة وبن لادن مع ما تمتع به من شعبية، فعل البغدادي ذلك عبر مغامرات جريئة سواء كانت للهجوم علي سجناء لتحرير سجناء، أو للاستيلاء علي المال من البنوك، أو لاصطياد الرهائن وطلب الفدية مقابل إطلاق سراحهم، عمليات كان من شأنها أن تجعل من داعش الجماعة الإرهابية الأغني في التاريخ. غير أن جرأته الأكبر تمثلت في تحدي الظواهري وعصيان أمره بأن يحصر نشاط مقاتلي تنظيمه داخل العراق وليس سوريا، ليقوم بقيادة جيش من الجهاديين العالميين كان يحتشد علي الحدود الراقية السورية. وبدا واضحا، مثلما يذهب إلي عطوان، أن البغدادي عازم علي انتزاع قيادة الحركة الجهادية العالمية من الظواهري. الكتاب: الدولة الإسلامية الجذور، التوحش، المستقبل المؤلف: عبد الباري عطوان الناشر: الساقي الكتاب: داعش عودة الجهاديين المؤلف: بتريك كوكبيرن المترجم: ميشلين حبيب الناشر: الساقي