فى عملية تشبه الانفجار الصغير, حيث تتناثر الحروف والعبارات والذكريات إلى شظايا ملونة بلون السنين.. كانت تجرى جلسات الحوار الأسبوعى بين أديب نوبل نجيب محفوظ والكاتب محمد سلماوى لمدة 12 عاماً وتحديداً منذ عام 1994، بعد طعنة الغدر التى تلقاها أديبنا الكبير وأعجزته عن الكتابة واهتدى صاحب هذا الرأس الوهاج لفكرة إجراء حوار أسبوعى مع الأستاذ سلماوى عوضاً عن مقاله فى الأهرام «وجهات نظر», فى سلسلة حوارات كاشفة لا تقل تماسكاً عن أى سياق درامى تنطق فيه الشخصيات بما يعتمل فى صدرها من شجون وآمال ومقتطفات من الحياة تلخص خبرة العمر وحكمة السنين ونفاذ البصيرة. تتجلى أهمية هذه الحوارات فى أنها تكشف النقاب عن القرن العشرين -قرن العجائب- الذى اختزل جميع العصور، جردة حساب بين حياته وأدبه يتأملها بعفوية وصدق، مؤكداً أن الأديب لن يعدم أبداً الوسيلة المثلى للتعبير عن آرائه إذا ضاق هامش الحرية، وبصوت يشبه لون الفضة فى روائه وصدقه يصارحنا أن كل وسائل التحايل والإيحاء والرمز والكتابة بين السطور أفضل للأديب ألف مرة من الكذب أو خيانة أمانة الكلمة أو التفريط فيها.. يسأله المحاور عن رأيه فى التطرف الدينى وعقلانية الإسلام كدين علم ومعرفة وكيف أنه استخلص من كل الحضارات أفضل ما فيها، وهل مازال عند رأيه فى ضوء ما يحدث فى العالم الإسلامي؟ وأين أصبحت العقيدة التى تحدث عنها بهذا الإعجاب؟ فيقول الأستاذ: لا يمكن أن نتجاهل الأفكار المتطرفة التى أفرزت العنف والإرهاب، لكنه يضيف أن كل فكر أو فلسفة به دائماً الوسط واليمين واليسار، أى أن به جانباً متطرفاً ونفس الآراء المتطرفة اليوم قد سمعها فى الماضى وهو صبي, قائلاً: «كنا لا نأخذها مأخذ الجد ونضحك عليها لأن المناخ السائد آنذاك لم يكن يسمح لتلك الأفكار بالازدهار, أما لماذا أصبح لها وجود الآن بل وصوتً عال، فيجيب أديب نوبل بمثال رائع: «هناك نوع من الحشرات شكله يلفت النظر, له صوت جميل ولا يؤذى ولذلك يستخدم للتسلية.. وفى تجربة معملية تم تغيير البيئة الطبيعية لهذه الحشرات فقللوا الطعام وزادت درجة الحرارة.. فانقلبت الحشرات إلى كائنات متوحشة تتصارع فيما بينها، وإذا طالت يدك تجرحها على الفور وتصيبك بالتسمم رغم أنها فى الأصل لم تكن سامة». ويجرى الحوار كنهر ينساب فى دعة وصفاء.. ويشرع أديب نوبل أسلحته التى لا تبارى فى الصدق وعمق الفكر, ويتماهى القارئ مع الحكى ويكاد الرأس ينحنى لسلطة الراوى كما تفعل فى رواياته البديعة، فيصارحنا بأنه كان يقرأ روايات العبث ويعجب بها ويتصور أنها بعيدة عنه تماماً.. لكن بعد هزيمة 5 يونيو، أصبحت مدرسة العبث هى مرجعية الرؤية التى تقوم عليها رواياته متبعاً أسلوبها فى الصياغة. وتنفتح كوة الضوء تدريجياً ويشعر القارئ بالاستنارة الروحية تغمر كيانه، ويسير مأخوذاً مع منحنيات الصعود المحفوظى بحرافيشه وتكاياه ومقاهيه.. ويبقى السؤال: هل قيمة الأديب فيما يقدمه من رسالة وليس فى موهبته؟ يجيب أديب نوبل: الرسالة جزء من القيمة الفنية، فالشكل والمضمون لا ينفصلان فى الفن، الشكل يؤثر فى المضمون والمضمون يحدد الشكل.. إن كتاب حوارات نجيب محفوظ مع سلماوي، منجز فكرى ومرآة عصر بأكمله.
الكتاب: حوارات نجيب محفوظ المؤلف: محمد سلماوي الناشر: مركز الأهرام للنشر 2015