نعيش معا منذ أشهر طويلة, لا أعرف ما هو الحل أصلا, لكنني أريد أن أكمل عمري مع ميريسيان رغم ما بيننا من اختلافات محددة من جانبينا, عمري مثلا يبلغ ضعف عمرها, لكنها تقول إن ذلك لا يعني شيئا, فكيمياء الجاذبية تظل دائما غامضة, بالتأكيد ميلي إليها ليس بسبب جمالها, فأكثر بنات هذا الجيل جميلات, وهن مثلها كثيرات المرح, تصلي وتصوم أحيانا, غير أننا اتفقنا علي ألا نتناقش في هذه الأمور, وألا يتحدث أحدنا عن ماضيه, وليكن كل منا علي طبيعته, وكان طلبي منها ألا تستخدم الماكياج, لكنها قال: لمسات بسيطة في أيام شحوب الخدين, ومانيكير الأظافر فقط, ومن جانبها طلبت أن نتقاسم تكلفة المعيشة معا, اتفقنا, وجاء الوقت لنوثق هذه الرفقة الطيبة. وماذا عن الحمل؟ تجيب بما هو بعيد عن الموضوع وهي تضحك: لاحظ أنني لسه ما بعرفش أضبط الملح في الأكل. ألاحظ بالطبع أن الملح يجيء مرة أقل, ومرة أكثر في الطبيخ, مع أن ضغط دمها طبيعي,حتي مع أصابع البطاطس المقلية صارت تضع الملح وحده, ولا تكون هناك مشكلة عادة مع طعام نطلبه بالتليفون, هي أيضا واقعية, أضبط من خلالها خيالاتي البعيدة. تبقي بعض التفاصيل.. أننا مثلا نتكلم في أمور الجنس التي يخجل حتي الزوجين من الكلام فيها, أحب أيضا أن أسمع من تليفونها تسجيلات.. مولاي, للشيخ سيد النقشبندي, وأحيانا أغنيات فيلم تيتانيك, وأحيانا تسمعني هي بعض حواراتنا معا وتكون سجلتها علي الموبايل. هي لا تصطنع شيئا, ولا تعوم علي عومي كي نتزوج, فمن فشل مثلي في زواجه من قبل مرتين, لا يعد( عريس لقطة) بأي مقياس, ثم إنها تقول دائما إنها تفضل الانفصال الهادئ, عن أن نضطر إلي العيش معا علي مضض عشان الأولاد, ومع هذا أستغرب كلامها عن أهمية الخلف والعيال, وأتذكر معها أن أغلب الإنسانية تتبع من الإحساس بالأمومة.. الأمومة وحدها. فيما مضي شرحت لي معني اسمها حين التحقت للعمل بالشركة التي أعمل بها نفسها, ولاحظت أنني أحب النظر في وجهها وهي تتكلم, وأحب عوجة فمها حين تنفعل, وكثرة الزغب الأصفر عند زاويتي شفتيها, والذي يبدو كأنما نبت فجأة, جاءت كمسئولة عن التخطيط والتسويق, لا تحب الكتب والجرائد, وتعتمد دائما علي تابلت معها, تتقن دائما ما تفعله, إلا ضبط الملح في الطعام, سوف يسألني أي أحد: وما عيوبها؟ هي موهوبة في تبديد المال لا علي طريقة العائدات من الخليج, لا تعمل حسابا لغدها, وتشتري كل ما تحتاجه, يزن الأمر أن راتبي مع راتبها كافيان, وحين تراني ممتلئا بالعمل تربكني بالقول من دون مناسبة. حتي لو أصبحت رئيسا لهذه الشركة, لن يزيد العالم شيئا ولن ينقص.. المهم سعادتك أنت, ستظل الأموال تتدفق عبر الكروت الممغنطة.. وسيتزوج كابل أو ينفصلان, وستبتلع دول دولا, ويموت بشر ويولد غيرهم.. هي الدنيا كده.. أقول لها. لولا أنني أعرفك, لقلت إنك بلا مشاعر. تقول متجاهلة الرد. عاوزة أعرفك بمامي, هتيجي معايا يوم الإجازة.. مش كده! هذه هي المرة الثانية التي سأقابل فيها أمها, كانت الأولي قبل أن تودع بيت المسنين, عموما ليس هناك ما أخشاه بالنسبة لتوريطي في زواج, بل أنا من يسعي إليه. حين كنت في مثل سنها, كان عنواني الشارع والمقاهي, وقليلا البيت, أتنقل كثيرا, وأقفز من حافلة إلي أخري, لي في كل حي من أحياء المدينة صديق, ومقهي أعرفه, أمتلئ بالحياة, وأتفرج علي العائدين يملأون الشوارع, منهم من يتسكع مثلي, ومنهم من يحمل صررا أو أسبتة وحقائب ملأي بما يحتاجه بشر, وأطالع جماعات الأولاد يملأون الشوارع فجأة في أي وقت, فأعرف أنني بقرب مدرسة, احتفال دائم بالحياة لا أحد يقصده, ومحلات تتلألأ بالأنوار وبالداخلين والخارجين.. هكذا لا أشعر بوحدة, مرت السنون بسرعة, تزوجت خلالها مرتين وفشلت مرتين. إلي أن اهتديت إلي تلك الطريقة أن نقيم معا لفترة قبل أي إجراء رسمي, بعدما أصبح الواقع مزورا.. ولم تعد العلاقات العابرة ملهمة. أربكتني ميريسيان بالقول. تتصرف كأن ليس لك حق علي الدنيا. أنت مش ضيف علي الحياة, أنت تحيا فعلا. لم ترق لي فكرة أن تودع أمها العجوز بعد رحيل أبيها دارا للمسنين.. وقالت ضاحكة.. وبما أني داخلة علي جواز أسألها عن حكاية الملح دي.. أضفت.. وبالمرة أخليها تعرفك مقادير الطعام.. وضحكنا. كانت ميريسيان تخطئ في تقدير حاجتنا من الطعام وتطبخ أكثر بكثير مما نحتاجه.. وفي نهاية الأمر نرميه في سلة القمامة. غير أنها حذرتني.. أن أمها بهذا ستعرف أننا نحيا معا وهذا لا يليق, ثم إنها قد تظنني بخيلا. فاكتفينا بأن تسأل عن حكاية الملح هذه. علي آخر حدود المدينة كان يقع هذا المنتجع الهادئ, حيث يقضي العجائز بقية أعمارهم رجالا ونساء, لدي سيرنا في الممر الذي يفضي إلي مبني الإدارة سألتها.. تفتكري بيلعبوا بديلهم هنا مع بعض. كان الموظفون ينادونها باسمها وهي تصافحهم في ألفة. فوقفت بعيدا أفحص المكان الذي يذكرني بمدرسة ثانوي, غير أن الأشجار هنا كثيرة والخضرة كثيفة. أومأت بالتحية لعجوزين يسيران باتجاه الحديقة. يتمهل الرجل لأجل المرأة التي تستعين بعكاز. بينما لايزال محتفظا بأناقته من خلال روب منزلي محكم, ويدخن بأن يغلق قبضته ويستنشق الدخان من فتحتها. أربكني بوجهه الذي يشبهني, عدا شعره الكامل ورقبته غير المحنية, خمنت أنه كان موظفا كبيرا, من جيب الروب رأيت ذراع نظارة يتدلي إلي جوار قلم. بدا نصف الحوش مغطي كأنه ساحة انتظار لمستشفي داخلي رصت فيه المقاعد.. بعض الرجال يسير وحيدا بمنامات القسم الداخلي المكوية, وغيرهم يهرول بالترينج سوت. بينما النساء.. النساء جميعا في كامل زينتهن. وآخرون كأنما رصصهم أحد فوق كراسي متحركة. قالت إحداهن لمن تدفع له كرسيه بجانبي.. هتشوف الفرقة؟ سألها بصوت ضعيف.. همه هييجو الساعة كام! وقفت انتظر بالكورديدور عودة ميريسيان بدت الي اليمين غرفة واسعة مضاءة جيدا. وفي منتصفها ترابيزة بنج بونج. وفي الزاوية انهمك اثنان في لعب الطاولة.. يراقبهما من بعيد أحدهم. وقد بدت علي وجهه أمارات وسامة قديمة. قسمت بياض وجهه إلي فصوص, وأمامه عدة جرائد مهملة. علي دكة قريبة كان اثنان يجلسان متباعدين يتحدثان عبر اثنين من زملائهما.. يحاول أحدهما أن يثبت أصله النبيل بذكر أسماء مشهورة. وفي إحدي مرايا الطرقة وقفت عجوز تخفي ساقيها في زوج من الجوارب الطبية أدارت صدغيها للمرآة ورفعت ذقنها ثم مضت. جال بخاطري أنني ربما كنت محظوظا بموت أبي وأمي بعد ما ظلا يكيلان الدعاء للآخرين, ويرضيان معا بما ينزل من نوازل العمر. عرفت أنه جاء هنا بفرق أكروبات, وبالساحر العجيب والحواة. وراحت تصلني حوارات العجائز وأسمع أطعمة لم أسمع بها من قبل. بدوا جميعا سعداء لكنني فكرت بتلك السعادة التي ليس فيها الجسد بإمكاناته الخالدة!.. فأغلب المقوسين هنا كان كائنا مستقيما فيما مضي قبل أن تندك قامته هكذا.. أو يرتعش في يدها كوب الماء. يا الهي.. جاءت بهم وفرة المال لأجل أيام اضافية في هذه الحياة.. يملأونها بالثرثرة. أوشكت أن أسأل أحدهم عن العجوز التي جئت وميريسيان لأجلها, بدلا من ذلك سألته: من فضلك عندي بعض الأسئلة. رفع حاجبيه من فوق النظارة باسطا لي كفه كنجم حقيقي, آذنا لي من دون كلمة. كم امرأة نمت معها, إن كنت تتذكرهن. هاج الرجل وتطلع حوله بوجه من اعتاد أن يوجه أوامره صارخا.. أنت مين, ودخلت هنا إزاي! ثم حين لم يسعفه أحد تجاهلني مخاطبا أحد البعيدين بصوت عريض. أيوه يا عبدالمنعم بيه, ما تنساش عندنا ماتش العصر, وقول للحاجة رضوي تجيب ترمس الشاي معاها. أجاب عبدالمنعم بيه من وقفته البعيدة, محتفظا بالسيجارة وراء ظهره. الحاجة رضوي يافندم في المستشفي من امبارح, جت لها غيبوبة بسيطة. خلاص هات أنت الكورة من الكانتين.. قول لهم رامي بيه سايبها هنا من أول أمبارح.. وبعد الماتش نطلع كلنا سوا نزورها.. هيه كويسة؟ كان الرجل الذي يتلقي التعليمات شابا أربعينيا قوي البنية كمصارع يردد.. أوكي يافندم.. أوكي وحين رأي ميريسيان اتجه اليها.. وكلما مر بأحدهم أحني رأسه بتحية عابرة مخفيا السيجارة خلف ظهره, أما رامي بيه فقد التقط رجلا بصحبة عجوز بدينة تتأرجح في سيرها قائلا: شفت.. أمريكا من سيكتسح الدنيا حتي ولو كان يحكمها قرد.. ولا ايه يا نظمي بيه! مش كلامي مظبوط يا سلوي هانم! ابتسمت سلوي هانم ونظرت له مبتسمة.. ذهبت ميريسيان وعادت وأشارت لي أن أبقي لدقائق.. تبعت الشاب مفتول العضلات إلي مكتب أنيق.. بقيت منتظرا أن تجيء بأمها وتسألها أمامي عن حكاية ضبط ملح الطعام. لكنني وجدتها تمسك بذراعي ماضية نحو البوابة. سألتها عن العجوز التي جئنا لأجلها, فابتسمت, قلت لنفسي.. في العودة سأعرف كل شيء, وبم نصحتها العجوز التي أنبغي أن أراها.. هي ستحكي لي بالتأكيد.