السياسة ليست مناكفة بل رؤية الواقع كما هو وليس كما نتمني! ومن هنا فإن الرئيس عبدالفتاح السيسي كان يقصد ما يقول بأن لا حل عسكريا في سوريا بل تسوية سياسية والأرجح أن البعض ما زال يراهن علي حسم بلمس الأكتاف, وهو ما لم يتحقق منذ بداية الأزمة السورية, والغريب أن النخبة العربية والمصرية منها تصدق أحيانا أن الدول مؤسسات خيرية, وأن الدول الكبري بل والاقليمية تحركها المبادئ لا المصالح. بل أحيانا تتغلب المخاوف علي المصالح, وينسي البعض الآخر أن العالم محكوم بتوازن القوي لا توازن المصالح. ومن هنا فإن استراتيجية مصر لابد أن تكون الانتصار بأقل الخسائر في لعبة الأمم الدائرة بقوة, وما دخول الروس المتأخر علي المسرح السوري إلا اعلان واضح من بوتين يقول نحن هنا.. سندافع عن مصالحنا, وسنحاول استرجاع ماخسرناه في العراق وليبيا والشرق الأوسط. ومرة أخري.. يخطيء من يظن أن الروس يحاولون مقايضة سوريا بأوكرانيا, هذا وهم.. الشرق الأوسط أهم للروسيا من زاويتين: تهديد الارهاب العابر للحدود لأمنها القومي, وثانيا إذا انسحبت واشنطن فإن موسكو تريد أن تملأ الفراغ في أخطر منطقة من العالم. وهنا فإنني أراهن بأن واشنطن والنخبة ومجمع المصالح العسكري الصناعي المالي لن يسمح بترك الشرق الأوسط ولا الخليج وبالقطع مصر للدب الروسي, وأغلب الظن أن أوباما مجرد فاصل استثنائي مثل جيمي كارتر قبل أن تعود الأمور كما المعتاد في واشنطن. تلك هي الصورة الكبري التي لامفر من رؤيتها كما هي, ولذا فإن خيارات مصر لابد أن يتم حسابها بعناية بالعقل البارد لا بالصوت العالي, وألا تندفع في مغامرات طائشة تحركها الأماني دون النظر للقدرات والمخاطر, وفي المقابل أيضا يجب ألا تأتي خطوات مصر بطيئة متخاذلة تترك الورقة المصرية بأيدي الآخرين إيثارا للإكتفاء علي الذات, لأن هذه دعوة للانقضاض علي المصالح الوطنية المصرية. بل لابد من السير علي خيط رفيع ما بين هاتين المدرستين, وأن يدرك الجميع أن مصر تمسك بأوراقها, وتؤيد عدم انفراد قطب عالمي وحيد بالأمور, وأنها تراهن علي قدراتها وصلابة شعبها, وقوة المؤسسة العسكرية, وتلاحم المصريين, وأن التحالف المصري العربي هو خيارنا الاستراتيجي ولن نساوم عليه, ولن يدفعنا أحد إلي حروب باردة عربية. ونقطة البداية هي ضرورة إدراك أن الحرب الكونية ضد الإرهاب هي أعلي مراحل الاستعمار مثلما يقول فواز طرابلسي في القدس العربي, ويؤكد طرابلسي أنه باسم هذه الحرب الكونية أندلعت حروب أهلية, وانتهكت سيادة بلدان, وتعسكرت المنطقة فوق ما هي معسكرة ومعها تعسكرت الحلول وانتهت السياسة!. إذن ماذا لدينا؟!.. إنها البشري حرب بلا نهاية, وذلك بعد تدمير3 دول عربية, وبدلا من تجفيف منابع الإرهاب, وعزل الجهاديين والإرهابيين عن بيئاتهم الحاضنة يجري تدمير تلك البيئات وتهجير سكانها مثلما رأينا في العراقوسوريا وليبيا. وهذا السيناريو المرعب هو ما تدركه مصر, وتحاول المؤسسة العسكرية المصرية أن تمنع انزلاق مصر إلي مستنقع الحروب العبثية ومحاصرة نيران الطائفية. والنقطة الثانية تتعلق بضرورة سعي مصر لاحتواء جحيم الفتنة المذهبية و الحروب الدينية لأنها ستؤدي بالمنطقة والعالم العربي والإسلامي إليهاوية بلا قاع. وهنا فأن الكاتب السعودي عبدالرحمن الراشد يدعو إلي تفادي الصدام السعودي الإيراني وذلك بعد الحرارة المرتفعة جدا في علاقات السعودية بإيران والتي تنذر بالخروج عن السيطرة!.والنقطة الثالثة: روسيا عادت.. هكذا شعر الكثير من القادة والخبراء, ويفسر بول بونيسيلي المسئول السابق عن برامج تعزيز الديمقراطية في إدارتي بيل كلينتون وجورج بوش كيف أن بوتين قد حاصر الرئيس أوباما في الزاوية, فإذا لم يفعل شيئا فهو الخاسر في الحرب الباردة الجديدة, وإذا قبل دعوته للانضمام إلي تحالف فإنه سينضم إلي تحالف دول كريهة, أما إذا اختار مواجهته بالقوة فسيكون أول رئيس يخاطر بخوض حرب ساخنة مع روسيا!. ويحمل بول الرئيس بخلق حالة فراع قوة في أكثر جزء من العالم خطورة لمصلحة أخطر أعداء أمريكا, إلا أن المهم هنا هو أن رجل المخابرات السابق بول بونيسيلي يكتب في مجلة فورين أفيرز الأمريكية تحت عنوان السياسة الواقعية لبوتين من أجل الفوز. ويشرح أن ما يريده بوتين هو تحقيق قدر روسيا والذي يعني التصدي للنفوذ الأمريكي في المناطق الأكثر أهمية, وإقامة الزعامة الروسية, ويبدو أن بوتين يدرك بقوة درس التاريخ القاسي وخلاصته الدبلوماسية لا تحقق سوي القليل ما لم تدعمها القوة والحقائق علي الأرض, ومن هنا فإنه انطلاقا من الحقائق الموجودة والتي تتشكل علي الساحة العالمية فإن مصر عليها أن تشيد استراتيجيتها الجديدة, وأن تمد يدها بالتعاون إلي قوي تفرض نفسها, وترغب في مساعدة مصر لاحصارها, وتتشارك معها في إدراكها لأهمية عدم انفراد قوة عظمي وحيدة بمقادير العالم نظرا لأنها حتي في انسحابها, واتفاقياتها لم تراع الكوارث التي ستخلفها, ويدفع ثمنها سكان دول المنطقة, مثلما حدث في العراق وليبيا وأفغانستان, المهم هنا أن التقارب المصري الروسي لن يكون قفزة من شاطئ إلي شاطئ آخر, بل توسيع للأوراق والصداقات المصرية لتشمل أيضا الصين والهند واليابان ودول الآسيان.. إلخ. النقطة الرابعة: إستراتيجية أوباما التي عنوانها الإنسحاب والقيادة من الحلف, والتي فيما بعد ولم تأت بما وعدت به, وفي مقالة رائعة للبروفيسور مارك لينش استاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن فإنه يجادل بأن أوباما كانت له استراتيجية تتعلق بتقليص الدور الأمريكي في الشرق الأوسط, وهذا لا يعني الحد من وجودها العسكري بل إظهار التحفظ الدبلوماسي والتراجع وتحدي الحلفاء حتي يضطلعوا بمسئوليات أكبر من أجل أمتهم.. ويعترف بأن هذه الاستراتيجية لم تكن محبوبة في واشنطن ولا من قبل المنطقة التي ترغب في إظهار القوة الأمريكية ويقول إن إدارة أوباما فشلت في تحقيق الوعود التي أثارتها خطاباته الملهمة! إلا أن النجاح لإستراتيجية أوباما من وجهة نظر الكاتب هي أنه بعيدا عن حل الحروب القديمة فأن قاوم الجهود التي كانت تحاول توريط الولاياتالمتحدة في حروب جديدة, إلا أن د. مارك لينش يقرر مسألة في غاية الأهمية بتأكيده أن نهاية الأمر بالنسبة لأوباما ليست أعادة التوجه نحو إيران, بل بناء توازن قوي إقليمي مستقر لا يتطلب وجودا دائما لقدر هائل من القوة الأمريكية. إذن هذا يعني بإختصار محاولة إعادة رسم الخرائط وتوازنات القوي بالمنطقة وهو ما يتطلب حوار مصريا عربيا, وتحالفا عربيا لفرض المصالح المصرية والعربية علي أي ترتيبات كما يتطلب حوارا مع واشنطن تقوده مصر حتي يتم رسم شكل العلاقة في المستقبل. النقطة الخامسة: تتعلق بسيناريوهات الفزع التي لا تزال تقدمها مراكز الابحاث الأمريكية وبالرغم من أن أفزعها للباحث ستيفن كوك بمؤسسة كارنيجي تحت عنوان الفوضي المصرية القادمةلم تتحقق. إلا أن الباحث المتخصص في الشئون المصرية لم يتمكن إلا من الإقرار بالحقيقة, ففيما يبدو أنه فزع هو نفسه عندما كتب مقالته هذه في مجلة فورين أفيرز بعد اغتيال النائب العام السابق وتوقع أن تغرق مصر في الفوضي بسبب الحرب ضد الارهاب, وقال كوك إنه علي عكس النزاعات السابقة فإن القادة العسكريين المصريين يجدون أنفسهم في أسوأ الحالات المحتملة.. حرب طويلة هم لم يستعدوا لها, وهذا يمكن أن يعرض وضعهم في النظام السياسي المصري للخطر.. وبصورة مجردة, فإن التغيير في وضع المؤسسة سيكون أمرا جيدا. ولكن في وضع النزاع الحالي, فإن هذا التغيير يعني تحطيم الجيش, وعندما تفعل ذلك فإنك تحطم مصر؟!. لقد فهم الباحث الأمريكي ما لم تستطع دوائر كثيرة في النخبة والشباب المصري أن تدركه, هذه حقيقة جاءت في مقال كبير لا يحمل الود للمؤسسة العسكرية. إلا أن الحقيقة أكبر من أن يخبئها أي أحد حتي لو كانت الإعلام المصري!. فلقد بات هناك شكوك عميقة حول قدرة الإعلام المصري علي مواكبة ضرورات الأمن القومي, ويبقي أن نتعلم الدرس, وأن ندرك قيمة وأهمية القوات المسلحة, الدرع والسيف للدولة الوطنية المصرية الحديثة. ولابد من إرسال التحية لجنودنا وضباطنا البواسل في ذكري تحرير الأرض, في ذكري73 النقطة الخالدة في تاريخنا. كما لابد أن يستقر في ضمائرنا أن الحرب لم ولن تنتهي, وأن جيل الحروب الرابع والخامس قد بدأ لتوه. ومصر ليس لديها خيار إلا أن تنتصر. لمزيد من مقالات محمد صابرين