عرضنا فى مقالات سابقة كيف أن الدكتور إسماعيل أدهم فى مقاله الصادم لم يتجرأ على الإسلام فقط بل على الأديان جميعا بإعلانه الصريح لإلحاده بل وتبريره لذلك الإلحاد. ترى كيف تعامل المثقفون المصريون فى الثلاثينيات حيال ذلك الإعلان الصادم؟ كان ثمة رد فعل من مجلة الأزهر التى كان يرأس تحريرها فى ذلك الوقت المفكر الإسلامى المعروف محمد فريد وجدي، حيث كتب فى العدد السابع من المجلة الصادر فى رجب 1356 (1937) تحت عنوان «لماذا هو ملحد» استهله بعبارة بالغة الدلالة يقول فيها: «إن انتشار العلوم الطبيعية، وما تواضعت عليه الأمم المتمدنة من إطلاق حرية الكتابة والخطابة للمفكرين فى كل مجال من مجالات النشاط العقلي، استدعت أن يتناول بعضهم البحث فى العقائد، فنشأت معارك قلمية بين المثبتين والنافين تمخضت بسببها حقائق، وتباينت طرائق، وآمن من آمن عن بينة، وألحد من ألحد على عهدته. ونحن الآن فى مصر، وفى بحبوحة الحكم الدستوري، نسلك من الكتابة والتفكير هذا المنهاج نفسه فلا نضيق به ذرعًا ما دمنا نعتقد أننا على الحق المبين، وأن الدليل معنا فى كل مجال نجول فيه، وأن التسامح الذى يدعى أنه من ثمرات العصر الحاضر هو فى الحقيقة من نفحات الإسلام نفسه، ظهر به آباؤنا الأولون أيام كان لهم السلطان على العالم كله، فقد كان يجتمع المتباحثون فى مجلس واحد بين سنى ومعتزلى ومشبه ودهرى إلخ فيتجاذبون المسائل المعضلة، فلم يزد الدين حيال هذه الحرية العقلية إلا هيبة فى النفوس وعظمة فى القلوب وكرامة فى التاريخ. هذه مقدمة نسوقها بين يدى نقد نشرع فيه لرسالة ترامت إلينا بعنوان «لماذا أنا ملحد؟» نشرها حضرة الدكتور إسماعيل احمد أدهم فى مجلة الإمام الصادرة فى أغسطس 1937ثم أفردها فى كراسة تعميمًا للدعوة» ويمضى محمد فريد وجدى مفندا ما قال به إسماعيل أدهم حريصا على أن تسبق إشارته إليه بلقب «حضرة الدكتور إسماعيل أحمد أدهم». ولم تلبث أن نشرت مجلة «الإمام» فى سبتمبر1937 رد الدكتور أبو شادى مع تعليق من المحرر جاء فيه «يذكر القراء أن فى مقدمة الرسائل الإسلامية القوية التى دبجتها يراعة الدكتور أبوشادى رسالته الموسومة «عقيدة الألوهية». وقد انبرى للرد عليها فى العدد الماضى الأستاذ الدكتور إسماعيل أحمد أدهم، ونشرنا رده بحكم احترامنا حرية الرأى فى حدود القانون، لاعتقادنا أن الأدب هو المستفيد من وراء هذا النقاش بغض النظر عن موافقتنا أو مخالفتنا للآراء المعروضة. ولما اطلع الدكتور أبوشادى على مقال الدكتور إسماعيل أدهم كتب يرد عليه فى رسالة مستقلة بعنوان «لماذا أنا مؤمن؟». وإلى هذه الرسالة القيمة نوجه أنظار قرائنا حتى يلموا بطرفى الموضوع، وإن كنا شخصيًا لا نعتقد أن هناك جدوى عملية من مثل هذه البحوث، وأن الأولى منها بعنايتنا هو الشئون الاجتماعية والاقتصادية فى المملكة التى يعيش سوادها الأعظم فى حكم الهمل بسبب سوء أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية». كانت تلك هى استجابة من يمكن أن نطلق عليهم ممثلى التدين المطمئن. يفندون دعاوى الإلحاد بهدوء دون تجاوز أو تدن؛ ولا يفوتهم التنبيه بأن الأولى من تلك المجادلات العناية بأحوال المصريين المتدنية اجتماعيا واقتصاديا. وبطبيعة الحال لم تخل الساحة ممن روعهم ما حدث ووجدوه مهددا للدين الإسلامي؛ فثمة من اتهم أدهم بأنه قزم عملقته الصحافة؛ بل إن الشيخ يوسف الدجوى عضو جماعة كبار العلماء الذى سبق أن هاجم دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة كتب عدة مقالات فى مجلة الأزهر تحت عنوان «حدث جلل لا يمكن الصبر عليه» جاء فيها أن إسماعيل أدهم «يطعن فى دين الدولة وملكها حامى الدين والعلم» وأن ما جاء فى مقاله ايتناقض مع الفطرة الإسلامية التى جبل عليها سائر البشرب مطالبا بالتحقيق معه؛ و قد كافأ النظام الملكى فضيلة الشيخ يوسف الدجوى بأن خلد ذكراه بإطلاق اسمه على واحد من شوارع حى المنيل بالقاهرة؛ كذلك فقد لبت وزارة النحاس نداء الشيخ يوسف الدجوى وقامت النيابة بالتحقيق مع أدهم وتفتيش منزله فوجدت فيه رسالة (لماذا أنا ملحد؟)، وملفات أخرى تحوى بعض نسخ من بحوث متعددة عن فلسفة النشوء والارتقاء، و قد اكتفت النيابة بتحذيره وتعطيل مجلة الإمام التى نشرت مقاله لأول مرة. وقد أثارت هذه الواقعة بعض المجادلات بين المحافظين والمجددين حول المقصود بالمادة 49 فى دستور 1923 التى تنص على أن دين الدولة الإسلام، وما جاء فى المواد 12، 14، 16 بشأن حرية الاعتقاد وحرية الرأى والفكر وطبيعة الدور الذى يضطلع به الأزهر وشيوخه فى الحياة الثقافية ومدى مشروعية قرارات هيئة كبار علمائه بشأن مصادرة الكتب وإحالة أصحابها للنيابة والحكم بتكفيرهم. كانت تلك هى أهم نماذج رد الفعل «الإسلامي» بشأن تلك القضية؛ ولنا هنا عدة ملاحظات: الملاحظة الأولى أن من فندوا ما قاله أدهم ظل نقدهم محصورا فى القول دون تجاوز إلى تشهير شخصى بالقائل. الملاحظة الثانية أن أحدا من المنتقدين للمقال لم يدع الجماهير للتظاهر احتجاجا، رغم أن العديد ممن شاركوا فى ثورة 1919 كانوا ما زالوا أحياء يختزنون خبرة المظاهرات الجماهيرية الاحتجاجية. الملاحظة الثالثة: أن أحدا لم يستخدم قط تعبير الردة وما يستتبعه من قتل المرتد بعد استتابته. وللحديث بقية لمزيد من مقالات د. قدري حفني