فى عام 2007 كتبت فى الأهرام منتقدا قيام بعض الشباب فى وسط القاهرة بتوزيع كتيب قديم صدر عام 1937 بعنوان «لماذا أنا ملحد» للدكتور إسماعيل أدهم، الذى انتحر بعد ثلاث سنوات من صدوره. كانت مجموعة صغيرة من الشباب ليس لها أى تأثير سوى فى بعض مقاهى وسط القاهرة، ولم يكن هذا الكتيب معروفا سوى لدى دوائر المثقفين، لارتباطه بقصة تكشف عن معركة فكرية توضح مدى وعى وتقدم المجتمع الثقافى المصرى فى الثلاثينيات من القرن الماضى. وفجأة أصبح بعض هؤلاء الشباب نجوما فى الفضائيات المصرية، وظهر أحدهم على أكثر من 3 فضائيات خلال الأيام القليلة الماضية فقط، ليشرح نظريته فى الإلحاد وسط اهتمام إعلامى كبير من برامج التوك شو التى حولت الأمر إلى «مولد سيدى الملحد»! وقصة إسماعيل أدهم الذى كان نابغة فى العلوم الرياضية مع كتيبه الصغير تستحق أن تروى بعد أن أصبح قدوة الملحدين فى مصر الآن، ففى عام 1937 قام الدكتور أحمد زكى أبو شادى بكتابة رسالة اسماها «عقيدة الألوهية» يتحدث فيها عن وحدة الوجود ، فكتب إسماعيل أدهم رسالة مضادة بعنوان «لماذا أنا ملحد» اعتمد فيها على نظرية النشوء والارتقاء وبعض المعادلات الرياضية لإثبات أن الكون جاء بالمصادفة البحتة. ورد عليه أبو شادى برسالة سماها «لماذا أنا مؤمن»، كما كتب محمد فريد وجدى رسالة بعنوان «لماذا هو ملحد؟»، وعقب عليهم جميعا الشيخ مصطفى صبرى الذى كان من أكبر علماء الخلافة العثمانية فى تركيا وهرب منها بعد تعرضه لعدة ضغوط واستقر بمصر حتى توفاه الله عام 1954. وقد نشرت الصحف المصرية وقتئذ هذه الرسائل والردود فى معركة فكرية مهمة، وحظى التعقيب الجامع للشيخ مصطفى صبرى باهتمام كبير، وقد طوره بعد ذلك ليكون مؤلفا كبيرا يحمل اسم «موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين». وقد لفت الانتباه فى هذه المعركة الفكرية أنه رغم تباين الآراء الفكرية، لم يوجه أى طرف فيها اتهامات بالتخوين أو العمالة أو حتى التكفير لأى طرف آخر، وقد عثر على جثة اسماعيل أدهم غارقة فى مياه البحر المتوسط عام 1940، وفى طيات ملابسه رسالة إلى رئيس النيابة يخبره بأنه انتحر لزهده فى الحياة وكراهيته لها، ويوصى بإحراق جثته. والكتيب الذى يوزعه بعض مريدى اسماعيل أدهم لا تزيد صفحاته عن 14 صفحة، 9 منها فقط بقلم المؤلف يتحدث فى 3 منها عن حياته واضطراب نشأته بين أب مسلم متشدد وأم بروستانتينية متحرّرة. ويفرد 6 صفحات لشرح عقيدته التى تقوم على مبدأ (الصدفة الشاملة) فى نشأة الكون، ضاربا أمثلة رياضية مثل «لو إنه لو كان يوجد مليون نسخة من كل حرف من حروف الأبجدية وتصادمت بشكل عشوائي فإنه من المؤكد سيؤدي ذلك إلى تركيب كتاب ككتاب (أصل الأنواع) أو (القرآن)» ! ورغم أن مجموعات الملحدين موجودة فى كل زمان حتى فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ورغم أن مثل هذه المعارك الفكرية موجودة فى مصر دائما، إلا أن الإعلام وخاصة الفضائيات تنبه فجأة مؤخرا إلى وجود ملحدين فى مصر، وتعامل معهم كوسيلة «للفرقعة الإعلامية» بعيدا عن أى معارك فكرية، أو تحليل موضوعى لاسباب ظهور هؤلاء والطريق الأمثل للتعامل معهم. والحقيقة أنه لا توجد فى مصر ظاهرة إلحاد مفاجئة، ولا توجد احصائيات موثقة من جهات علمية عن طفرة مفاجئة فى عدد الملحدين، على عكس ماتروج له بعض وسائل الإعلام، لكن يوجد تشتت ذهنى لدى بعض الشباب نتيجة عدة ظواهر سلبية يمر بها المجتمع، منها تشوه صورة الإسلام على يد جماعات الإسلام السياسى وخاصة الإخوان وداعش ،بسبب ممارستهم الإرهابية التى تنسف جوهر سماحة الإسلام، وتقوقع علماء الأزهر على أنفسهم داخل المساجد فقط، وعدم الانطلاق بالدعوة إلى كل مكان لتوضيح القيم الحقيقية لهذا الدين العظيم، وعدم وجود عدد كاف من الدعاة الذين يمتلكون الأدوات اللازمة والسلوكيات التى يستطيعون من خلالها الوصول إلى قلوب وعقول الشباب. إننا بحاجة إلى تطوير مناهج وأساليب إعداد الدعاة على ضوء ثورة الاتصالات والتكنولوجيا التى حولت العالم إلى قرية صغيرة، وإلى تطوير الخطاب الدينى ليناسب الواقع الحالى، وبحاجة أيضا إلى أن يتخلص مثقفونا من حالة الاستقطاب الحاد التى يعانون منها الآن، وأن يؤمنوا بحق بتعدد الآراء واحترام الرأى الآخر، ومقارعة الحجة بالحجة. ولنرحب بالمعارك الفكرية التى تقوم على أسس موضوعية، وتتناسب مع ثقافة القراء والمشاهدين، ونترك الخوض فى العقائد إلى المتخصصين فى الغرف المغلقة، وننتبه إلى الموضوعات التى تهم الأغلبية الساحقة المطحونة من الشعب المصرى، وليس إلى شباب مقاهى وسط القاهرة فقط. أما نظرية «جلا جلا» التى يتعامل بها معنا بعض مقدمى برامج التوك شو، فمكانها هو السيرك وليس شاشات الفضائيات، وهم لا يدركون أن الشعب المصرى العظيم الذى أطاح بصاحب نظرية «القرد والقرداتى»، بدأ يكشف حقيقة هؤلاء الحواة. # كلمات: إذا ما جهل المرء بأمر فما أيسر عليه من معارضته. الشيخ محمد عبده لمزيد من مقالات فتحي محمود