فى صباح يوم 23 يوليو عام 1940 انتشل البوليس المصرى من شاطئ جليم بالإسكندرية جثة شاب فى أواخر العشرينيات من عمره، ووُجد فى جيب معطفه رسالة موجهة إلى رئيس النيابة تفيد بأنه الكاتب المصرى إسماعيل أحمد أدهم، وانه انتحر تخلصاً من الحياة التى زهد فيها وكرهها ! ولد الدكتور إسماعيل أحمد أدهم فى حى الجمرك بالإسكندرية فى 17 فبراير 1911 لأب تركى وأم ألمانية، وكان عميد أسرته هو إبراهيم أدهم باشا الذى اختاره محمد على باشا محافظاً للقاهرة ووزيراً للمعارف والحربية، وقد تلقى الدكتور إسماعيل أدهم تعليمه الابتدائى بالإسكندرية وأجاد ثلاث لغات؛ هي: العربية والتركية والألمانية، بالإضافة للغة الإنجليزية وعشق القراءة منذ طفولته فعمل على تثقيف نفسه بنفسه فكان يقرأ فى مجالات الأدب والتاريخ والرياضيات التى شغف بها، ولتخلى الدكتور إسماعيل أدهم عن العقيدة الدينية - وهو الحدث الجلل الذى اشتهر به - أسباب عدة أولها تربيته الدينية المتشددة حيث انشغل عنه والده بالحروب وأوكل مهمة تربيته إلى زوج عمته فما كان منه إلا أن أثقل عليه بالفروض الدينية وأرغمه على حفظ القرآن كاملاً فى سن صغيرة، هذا بالإضافة إلى تشتته بين الإسلام والمسيحية وهما ديانتا والديه وفى سن الرابعة عشرة تأثر الدكتور إسماعيل بنظرية داروين فى التطور وثار على تشدد والده الدينى فامتنع عن الصلاة وصارحه أنه ليس بمؤمن وأنه داروينى مؤمن بنظرية النشوء والارتقاء، فما كان من والده إلا أن أرسله إلى مدرسة داخلية بالقاهرة ليقطع عليه أسباب المطالعة ! وبمجرد إكمال تعليمه الثانوى فى مصر غادر الدكتور إسماعيل أدهم إلى تركيا والتحق بجامعتها وقام بإكمال تعليمه الجامعى هناك، ثم قام بتدريس الرياضيات بجامعة أتاتورك وحصل على درجة الدكتوراه من روسيا وقام بتدريس الرياضيات هناك، ثم عاد إلى الإسكندرية بعد رحلته الطويلة حيث تعرف على الأستاذ أحمد زكى أبو شادى الذى احتضن موهبته الأدبية، ونشرت مقالاته فى عدة مجلات فكانت حديث المثقفين وقتذاك. ولأن المجتمع العربى اعتاد على محاربة كل من تسول له نفسه أن يمارس أى حرية فكرية خارج ثوابته وموروثاته، لم يلتفت هذا المجتمع إلى عبقرية إسماعيل أدهم التى تجلت فى علوم الرياضيات، وأسلوبه الأدبى رغم صغر سنه، حتى أن البعض ظن أن كاتبا كبيراً يكتب له مقالاته، وإنما صب المجتمع سخطه حين أعمل الشاب فكره، وكان يكفيهم سببا لمقاطعة ما سطره كتابه الشهير: لماذا أنا ملحد؟. ونستطيع أن نجزم أن المجتمع المصرى وقتذاك كان أكثر تسامحاً ورقياً على المستوى الفكرى من الآن، فقد رد الدكتور «محمد جمال الفندى» على كتاب (لماذا أنا ملحد؟) بكتابه الأشهر (لماذا أنا مؤمن؟).. ولو أن أحداً تجرأ اليوم ودعا إلى مناقشة فكرية بين مذاهب الإسلام نفسه لقُتل ومُثل بجثته بتهمة الكفر التى أدان بها بعض الدعاة مؤخراً زهرة (عباد الشمس)!، والتى أُدان بها أنا أيضاً وأتلقى يومياً عشرات رسائل السباب والوعيد عبر حسابى على الفيسبوك لإنتمائى اليسارى الذى عمدت الأنظمة العربية بشكل ممنهج إلى تشويه سمعته، حتى أن كلمة (شيوعية) أصبحت فى زماننا الحالى مرادفاً للإلحاد، رغم أنها الفكرة الأكثر تديناً على وجه الأرض، وهل يرضى الله أكثر من تحقيق قيم العدل والحق والمساواة ؟! آللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون.