أشرنا ضمن مقالنا السابق إلى عصر عشناه كنا مطمئنين فيه إلى ديننا فكان تديننا مطمئنا حتى إننا لم نستنكف أن تهرع الحاجة فلانة لتأخذ بخاطر جارتها المسيحية لأن ابنها ترك المسيحية واعتنق الإسلام ليتزوج من مسلمة؟ ترى كيف كان ذلك؟.. إن الجماعات البشرية ومنها الجماعات الدينية؛ تحرص دوما على بقاء أبنائها فى كنفها، ولكن آليات ذلك القانون تتباين بتباين الثقافة التى تسود الجماعة، ففى ظل ثقافة الاستقرار والطمأنينة تكون الجماعة أكثر يقينا فى عودة ابنها «الضال» إلى أحضانها مهما طال الزمن، ولذلك فإنها لا تتطرف كثيرا فى عقابه، كما أنها لا تبالغ كثيرا فى دلالة كسبها عضوا جديدا خاصة إذا ما كان من أبناء واحدة من الجماعات الفرعية المكونة للأمة نفسها؛ ويحدث العكس بطبيعة الحال فى ظل ثقافة الاضطراب والخوف. وثمة حقيقة بسيطة من حقائق علم النفس الاجتماعى مؤداها باختصار أن تماسك الجماعات محكومة بقوانين علمية ثابتة تتضمن تلك القوانين عددا من الآليات التى تتباين وفقا لاطمئنان أبناء الجماعة لما تتمتع به جماعتهم من قدرة على البقاء والانتشار وإقناع الآخرين، فى مقابل إحساس أبناء الجماعة فى ظل ظروف أخرى بأن جماعتهم مهددة هشة معرضة للتفسخ والانهيار . فى الحالة الأولى تدافع الجماعة المطمئنة عن نفسها وتدعم تماسكها من خلال آليات إيجابية مثل التسامح والشفافية والقبول بالاختلاف وتشجيع الحوار واثقة من أن ذلك سوف يؤدى ذلك إلى زيادة التفاف أبنائها حولها بل واكتسابها لأعضاء جدد. أما فى حالة الجماعة المذعورة التى تحس بالتهديد فإنها تتبنى نوعا مختلفا من الآليات مثل: التعصب، والعنف حيال «المارقين» وتضخيم دلالة أى حدث يمكن الإيهام بأنه يمثل انتصارا على «الآخر» والخوف من الاعتراف بأية سلبيات مهما كانت خوفا من أن يستغلها «الآخر». ويتملك الجماعة الهلع إذا ما انسلخ عنها واحد من أبنائها إذ ترى فى ذلك نذيرا بأن يتبعه آخرون ومن ثم تسعى لتنزل به أقسى درجات العقاب ليكون عبرة لغيره ممن قد تسول لهم أنفسهم اتباع الطريق نفسه. لو عدنا بذاكرتنا إلى الثلاثينيات؛ حين بدأ جموع المسلمين السنة يواجهون صدمة انهيار الخلافة العثمانية، لتبينا بزوغ تيارين فكريين أساسيين: تيار يسعى لاستعادة الخلافة باعتبار هذا السعى فريضة إسلامية وأن الخلافة هى التعبير الوحيد والصحيح عن الإسلام؛ وذلك فى مقابل تيار يرى أن التمسك بالوطنية المصرية بمكوناتها التاريخية المتميزة دون تذويبها فى أى كيان أكبر لا يتعارض البتة مع جوهر الدين الإسلامى. ولسنا بصدد التعرض للتجليات العديدة لذلك الانقسام القديم أو الحديث، بل سنحاول الإجابة على سؤال محدد: ما هى الآليات التى اتبعها أسلافنا من المسلمين المصريين للدفاع عما يعتنقون؟ وما هى الآليات التى سادت بعد ذلك فى هذا الصدد؟ هل هى آليات الجماعات المهددة أم آليات الجماعات المطمئنة؟. لدينا مثال صادم. فى النصف الثانى من الثلاثينيات، و فى خضم تلاطم تلك التيارات، ألقى الطبيب المفكر أحمد زكى ابو شادى محاضرة بعنوان «عقيدة الألوهية» التى ألقها فى ندوة الثقافة بالإسكندرية مساء الثلاثاء 3نوفمبر سنة 1936 وهى المحاضرة التى نحى فيها منحا أدبيا وصوفيا وجمع بين العقل والقلب والفطرة فى إثبات الألوهية؛ والتى نشرت فى مجلة «الإمام» بعنوان «عقيدة الألوهية 00 مذهبى» يطرح فيه جذور عقيدة الألوهية فى الإسلام، ويعرض فيه لكتاب صدر عام 1897 للمفكر البريطانى الملحد جرانت آلن بعنوان «نشأة و تطور فكرة الله». ويختتم أبو شادى عرضه الموجز للكتاب بعبارة بالغة الدلالة إذ يقول «ولو كنت أملك الوقت الكافى لنقلت هذا الكتاب الأخير على علاته إلى العربية، لأنى أؤمن بنشر المعارف الحديثة كما هى و لا يرضينى مطلقا الحجر على الاطلاع، ولا أخشى نشر المعارف اللادينية ما دامت لمفكرين ناضجين بارزين، و إنما يبقى على علماء الإسلام بعد ذلك دفع الشبهات فى أدب و اتزان، و اللغة العربية هى المستفيدة من كل هذا، كما أن الأدب الدينى الحديث يزداد شأنه بهذه الثقافة». وأثار هذا المقال كاتبًا مصريًا شابا ملحدا أيضا هو الدكتور إسماعيل أدهم فنشر فى أغسطس 1937 مقالًا مطولًا يحمل عنوانا صادما هو «لماذا أنا ملحد؟» نشرته له ذات المجلة يروى فيه ذكرياته الشخصية عن معاناته الأهوال بين الشك والإيمان، ثم يقرر فى وضوح كامل «أنا ملحد ونفسى ساكنة لهذا الإلحاد ومرتاحة إليه، فأنا لا أفترق من هذه الناحية عن المؤمن المتصوف فى إيمانه». دعونا نتخيل ما الذى يمكن أن يحدث اليوم لو ان شخصا خرج علينا بمقال او دراسة تحمل عنوانا واضحا يقول لماذا أنا ملحد؟ أظن أن رد الفعل سوف يدور حول الاحتمالات التالية: سوف يرفض مسئول الصفحة أن يجيز المقال، ولو أجازه فسوف يرفض عمال المطبعة جمع المقال، ولو جمعوه فلن يوافق رئيس التحرير على نشره، ولو تم النشر، فسوف ترفض شركة التوزيع توزيع المطبوعة اما لو تم التوزيع فسوف تقوم الدنيا ولن تقعد. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث؛ فقد تم نشر المقال، ودارت حوله مناقشات صاخبة، ولكن لم يطالب أحد بإقامة حد الردة على الكاتب، أو بإحراق مقر المجلة؛ وأيضا لم تتحول جماهير المسلمين إلى الإلحاد بل ظلوا على تدينهم المصرى الإسلامى الفريد المطمئن. ولكن ترى ماذا كانت طبيعة مناقشات المثقفين المصريين «الإسلاميين» حول هذا الموضوع آنذاك؟! لمزيد من مقالات د. قدري حفني