«يبدو أننا لن نعرف النوم طويلا بسبب هذا الكابوس السورى الذى بات يطاردنا حتى ونحن مستيقظين» عبارة قالها بشكل عابر السياسى الذى ينتمى للائتلاف الحاكم بمملكة بلجيكا فى مقابلة تليفزيونية بثتها احدى قنوات التليفزيون الناطقة بالهولندية لتكون خير عنوان يعبر عن جذوة الصراع التى اشتعلت أخيرا فى البلاد بين الحكومة و المعارضة من ناحية، وبين الحكومات المحلية ونظيرتها الفيدرالية من ناحية أخرى. فى البداية لابد من الإشارة الى أن بلجيكا، التى تعتمد نظام الملكية الدستورية ويشكل الحزب الفائز فى انتخاباتها البرلمانية الحكومة، تشهد ثنائية صارخة ما بين ميول قومية متطرفة لدى حزب الاغلبية اليمينى المعروف اختصارا ب"إن- فى إيه" ذى النزعة الانفصالية باقليم فلاندر الثرى وبين أحزاب اليسار والوسط ذات النزعة الاصلاحية المعتدلة والتى تشكل القوام الاكبر للمعارضة. كما تشهد ثنائية أخرى ما بين الحكومة الفيدرالية وبين الحكومات المحلية للاقاليم الثلاث الرئيسية بالبلاد، فلاندر ووالونيا وبروكسل، فضلا عن انقسام البلاد فى هويتها اللغوية والثقافية الى ثلاث لغات معترف بها تشكل كل منها هوية مستقلة و هى الفرنسية والهولندية والألمانية. وسواء كانت تشكل هذه المكونات حالة من التنوع الخلاق أم التناقض القابل للانفجار بأى لحظة، فالمؤكد أن تدفق اللاجئين السوريين على مركز "شئون الأجانب" بالعاصمة بروكسل مؤخرا فى أعداد غير مسبوقة أثارت فزع المواطنين العاديين، قد فجر صراعا ضاريا بين مكونات المشهد السياسى بالبلاد، حتى انه يمكن للمراقب أن يقطع بأن ملف الهجرة قد تم تسييسه وأصبح كرة تتقاذفها اقدام الساسة بحثا عن احراز هدف بمرمى الخصم! طلقة البداية والتى أشعلت حالة التراشق والمكايدة السياسية جاءت عبر القيادى بالائتلاف الحاكم بارت دى ويفر- عمدة مدينة انتويرب باقليم الفلامنك الثرى - حين صرح بأنه ينبغى منح القادمين من مناطق النزاع بسوريا ما سماه "وضعية اجتماعية خاصة" مبررا فكرته بأنه يجب عدم المساواة المفاجئة بين الوافد ومواطن ظل طوال عمره يمنح البلاد أجمل سنوات حياته عملا وكدا. وعلى الفور التقطت أحزاب و تكتلات المعارضة هذا التصريح لتشن هجوما عنيفا على خصمها اللدود. وعلى سبيل المثال لا الحصر، قال ووتر دى فرنيدت - العضو بحزب جريون المعارض - إن حزب الاغلبية يريد خلق مواطنين من الدرجة الثانية على أراضينا, وعلى نحو يجب أن ننسى معه كل ما تعلمناه عن القيم الحضارية والانسانية. وأضاف ناهيما لانجيرى - العضو بالبرلمان والقيادى بالتكتل المعارض المعروف اختصارا ب«سى دى - في»: اذا وصل الى بلادنا شخص بصفة لاجيء و تأكدنا من صدق ما يقول فعلينا فورا منحه جميع حقوق المواطنة الكاملة بحكم التزامنا الاخلاقى والقانونى و قيمنا الاساسية، وكل كلام يخالف ذلك فهو انتكاسة وردة ينبغى رفضهما! وما بين صوت يمينى قومى يوصف ب"المتطرف" يريد تحويل اللاجيء السورى الى مواطن من الدرجة الثانية، ومعارضة تتمسك بالقيم المثالية دون أن يتضح بالضبط هل تفعل ذلك عن قناعة حقيقة أم فقط لإحراج غريمها السياسى، تظهر وجهة نظر ثالثة تحاول أن تقف فى المنطقة الوسطى. وجهة النظر تلك عبر عنها جويندولن روتن رئيس الحزب المعروف اختصارا ب"فى إل دى" حين قال: ليس من المعقول أن نتخيل أننا سوف نتعاطى مع ملف الهجرة بلا نهاية ودون حدود، فلا يمكن أن نضمن أمننا الاجتماعى مع تدفق طلبات اللاجئين الى ما لا نهاية، وبالتالى ينبغى التفكير فى مقاربة أفضل تحل الأزمة " ووسط هذه التصريحات النارية هنا وهناك، يأتى تصريح هاديء رزين على لسان السياسى الاشتراكى هانز بونتى، عمدة مقاطعة فيلفووردى، فهو يحذر من المخاطر التى ينطوى عليها تدفق اللاجئين السوريين لكن من وجهة نظر جديدة. يقول هانز: يجب أن نضع فى حسباننا أن بلادنا قد باتت مهددة بانتقال الصراع السورى اليها حرفيا، حيث يوجد العديد من المتطرفين "الاسلاميين" الذين ينظرون الى كل سورى يأتى الينا طالبا اللجوء السياسى على أنه أما خائن أو فى أحسن الأحوال جبان فر من ساحة المعارك، وبالتالى يجب الانتقام منه، وهكذا أصبح الوضع متفجرا وقد نفاجأ بحرب سورية- سورية على أراضينا، ما لم نتحرك سريعا لفعل شيء ما"! نيران الاشتباكات التى فجرها ملف الهجرة السورية لم يتوقف عند حدود الساسة وكواليس الصراع الحزبى، بل امتد الى الحكومة المحلية باقليم بروكسل، حيث شنت بدورها انتقادات لاذعة الى الحكومة الفيدرالية برئاسة شارل ميشال الذى وصفوا موقفه ب"المتخاذل" حيال أزمة تدفق اللاجئين امام مكتب شئون الاجانب بالعاصمة بروكسل. وتعد هذه من المرات النادرة التى تصدر فيها أبرز مكونات اقليم بروكسل مثل مجلس العاصمة و بلديتا ساربيك وسانت لوس ومركز الخدمات الاجتماعية بيانا رسميا ضد رأس الحكومة ووزير دولته لشئون اللجوء والهجرة يطالبونه بتحمل مسئولياته وعدم الوقوف "مكتوف الأيدى" إزاء المشكلة المتصاعدة. ومن المفارقات الدرامية فى الأمر أن ثيو فرانكين وزير الهجرة واللجوء يعتزم مطالبة المفوضية الاوربية بتقليص حصة بلجيكا من اللاجئين السوريين واعطاء بقية دول الاتحاد الاوروبى حصة اكبر، وهو ما طالبت به سلطات اقليم بروكسل حيث تناشد رئيس الوزراء تقليص حصتهامن اللاجئين وتوزيع الجزء الأكبر على بقية أقاليم المملكة!