يشكل الفوز بالمقعد غير الدائم فى مجلس الأمن الدولى 2016-2017 فرصة سياسية ودبلوماسية هامة لمصر. ففضلا عن المكانة التى تحظى بها الدول غير الدائمة بالمجلس، خصوصا خلال التصويت على القرارات الدولية التى تضعها تحت دائرة الضوء خلال عامى شغلها للمقعد، فإن عضوية المجلس تمكن الدول من تسليط الضوء على القضايا التى تهمها والاجتهاد لتجنب التصويت ضد مصالحها فى القضايا التى تهمها أو تهم حلفائها، فضلا عن إتاحة الفرصة لها لطرح ذاتها من خلال أهم رواق ومسرح دبلوماسى أممي. وفى أغلب الأحيان يكون الأعضاء غير الدائمين بالمجلس محطا للمساومات والضغوط الكثيفة والمعقدة من جانب الدول دائمة العضوية والكتل الدولية المختلفة، فى القرارات التى تستلزم أصواتهم لصدورها، وهو ما يزيد أهميتهم بشكل كبير. وفى أحيان كثيرة كان تصويت دول بحجم ميكرونيزيا بمثابة كلمة الفصل فى قضايا دولية بحجم القضية الفلسطينية. لذلك لا ينبغى الاستهانة بأهمية حصول مصر على هذا المقعد الدولى الرفيع. أهمية المقعد وتزيد أهمية مقعد مجلس الأمن فى الفترة الراهنة بالنسبة لمصر لأسباب عديدة، منها: أولا: استعادة المكانة الدولية: فحصول مصر على مقعد مجلس الأمن بعد عامين فقط من ثورة كاد يتصدع قبلها كيان الدولة المصرية، وبعد وقوف دول كبرى ضد الثورة والنظام الجديد، هو دليل دامغ على استعادة مصر عافيتها ونشاطها الدبلوماسى على الصعيد الدولى واستعادتها مكانتها فى أفريقيا والعالم العربي، واعتراف عالمى بانتصار ثورة 30 يونيو، وكسب مصر معركة الاعتراف السياسى والدبلوماسي، وهو ما يلفت الانتباه إذا ما قورن بعدم تمكن دول مستقرة مثل تركيا من الفوز بهذا المقعد فى فترة سابقة. ثانيا: جدارة الفوز بالمقعد الدائم: يأتى التنافس الحالى على المقعد غير الدائم فى وقت تدور فيه حوارات ومباحثات وتطرح أفكار بشأن إصلاح وتطوير مجلس الأمن الدولي، ومن بين الأفكار المطروحة توسيع عضوية الدول الدائمة فيه. وتطرح دول مثل الهند واليابان وألمانيا ذاتها بقوة، وتطرح مصر ونيجيريا وجنوب إفريقيا نفسها كممثل عن القارة الإفريقية. ويشكل فوز مصر بالمقعد غير الدائم الآن فرصة لتسليط الضوء على مهارات الأداء الدبلوماسى المصرى ويقدم نموذج محاكاة عملى لأدائها الدبلوماسى حال حصولها على المقعد الدائم، وهو ما سيجعل سلوكها بالمجلس عامى 2016 - 2017 محل رصد وتقييم من جانب القوى والتكتلات الدولية. ثالثا: أهمية استعادة الدولة الوطنية: مرت المنطقة العربية بظروف صعبة تعرضت فيها الدولة الوطنية لضربات شديدة، وكانت مواقف بعض الدول الإقليمية والكبرى مضطربة، وهو أمر شكك فى الإيمان بقيمة الدولة، مع إعلاء بعض الدول المصالح قصيرة النظر على القيم الدولية المستقرة، وفى ظل هجمات قوى وشبكات ما دون الدولة، تصبح هذه الحالة أشد الحالات تهديدا للسلم والأمن الدوليين. وهنا الفرصة متاحة أمام مصر للتأكيد على ضرورة استعادة القواعد التقليدية للعلاقات الدولية بين الدول، والتصدى لعالم وشبكات الإرهاب الذى تدعمه بعضها لدواع انتقامية أو مصلحية أو لدوافع ترتبط بجماعات وأيديولوجيات هدامة، والدفع برسالة مصرية للعالم بأهمية استعادة عالم الدول الذى جرى اختطاف بعض أجزائه من قبل عالم ما دون الدولة. رابعا: تقديم نموذج للأداء الدبلوماسى بعد الثورات: حصلت مصر على مقعد غير دائم أربع مرات سابقة، أولها فى عهد الملكية 1949 – 1950، وثانيها فى عهد عبدالناصر 1961 – 1962، ومرتين ثالثة ورابعة فى عهد مبارك (1984 – 1985) و(1996 – 1997). ويشير ذلك إلى أن مصر لديها خبرة بالمقعد فى كل الحقب وميراث من الأداء الدبلوماسى فى التعامل معه. لكن المقعد هذه المرة مختلف تماما، فلسنا فى زمن القطبية الثنائية ولا زمن الانفراج أو الانهيار السوفيتي، وإنما نحن فى ساعة عالمية تدق عقاربها بأشكال وبتوقيتات مختلفة تماما، وهناك قضايا قديمة موروثة ومظاهر من عالم الماضي، وقضايا جديدة مفتوحة على عالم المستقبل. وهو ما يتطلب توظيف أقصى درجات الذكاء والمهارة الدبلوماسية فى التعامل مع المقعد. وبشكل عام لم تعد قوة الأداء فى المقعد الأممي، تعتمد على المهارات الخطابية أو الركون إلى الانحيازات والعواطف التاريخية، أو الرهان على المواقف الأيديولوجية، كما لم تعد تعتمد على الحجج القانونية التقليدية من قبيل التأكيد الرتيب على مبدأ عدم التدخل فى الشؤون الداخلية للدول، وإنما على المعلومات الموثقة وتوظيف الفنون والمهارات الإقناعية المتطورة بالغة التخصص والدقة والمهنية وتوظيف المعرفة والعلم، والتى لا يكفى معها الدبلوماسى العادي، وإنما ضرورة الاستعانة بأدوار المكاتب المتخصصة ومراكز البحوث المختصة ومجموعات العمل التى تتشكل بحسب كل قضية. وهذا مجال واسع يمكن من خلاله التعرف إلى سقطات الأداء الدبلوماسى العربى أمام المراوغات والفنون الإقناعية القانونية والسياسية لممثلى إسرائيل، فى كثير من المرات التى كان الحق القانونى والأخلاقى فيها إلى الجانب الفلسطينى والعربي. إن الأداء الجيد لمصر فى المقعد بخصوص القضايا الهامة لإفريقيا والعالم العربى سيكون سبيلا لإقناع العرب ودول القارة بجدارة الأداء الدبلوماسى لمصر واستحقاقها للمقعد الدائم، كما أن استيعاب وفهم مصر لمصالح القوى الكبرى والتكتلات الدولية سيكون سبيلا لإقناع الدول دائمة العضوية بحكمة وعمق الدبلوماسية المصرية. وفى ظل أجواء الخلاف والتناقض والصراع سيكون على مصر إيلاء اهتمام أكبر للدبلوماسية، وهو ما يقتضى التعمق فى دراسة الأزمات الدولية الجديدة ومصادرها وأسبابها، والإحاطة الجيدة بخبرات الأداء الدبلوماسى الناجح من واقع الأداء المختلف للدول فى هذا المقعد على امتداد تاريخ الأممالمتحدة. ومع الفوز بالمقعد الدولى يكون على الدول فى الأغلب السير على حبال مشدودة، فى ظل تعارضات المصالح الدولية التى تشدها فى اتجاهات متباينة، وهنا يكون للحكمة الدبلوماسية دور كبير، فلا يجب على مصر تبنى مواقف يكون من شأنها تحقيق صدى إعلامى قصير وسريع، على حساب مكسب سياسى طويل وآجل، وعليها أن تضبط بوصلة حركتها ومواقفها مع بوصلة المصالح المصرية والأفريقية والعربية، فذلك ما يضمن لها كسب أوراق تساعد على تحقيق طموحها بالفوز بالمقعد الدائم، وصحيح أن كثيرا من مواقف مصر فى هذا الخصوص يمكن أن ينال من أوراقها لدى القوى الكبرى والولايات المتحدة تحديدا، لكنها ستضفى على دورها قيمة أخلاقية وسياسية تجعل صوتها مستقلا وقيمة مضافة، وليس تابعا، على نحو يزيد من ثقة الآخرين به. قواعد ضابطة فى ضوء ما سبق توجد بعض القواعد التى ينبغى أن تضبط السلوك المصرى فى المقعد الدولى فى القضايا التى سوف تعرض خلال فترة عضوية مصر، وذلك على النحو التالي: 1 النهج الوقائى والتنبيه بشأن الأزمات المحتملة: كثير من الصراعات يمكن تفاديها قبل نشوبها، مع ذلك لا تتحرك الأممالمتحدة فى الصراعات بالمستوى نفسه من النشاط والأولوية، ويمكّن التحرك فى الأزمات قبل وقوعها من تقليص حجم وحدة الصراعات فى العالم. وهو أمر لو أعطت له الدبلوماسية المصرية اهتمامها على الصعيدين العربى والإفريقى يمكنها أن تساعد فى خفض الصراعات. 2 التدخل بين أطراف الصراعات القائمة: يمكن للتدخل الدبلوماسى النشط فى مواطن الأزمات بالقارة الإفريقية والعالم العربى أن يوفر لمصر خبرات هائلة بأوضاع الصراعات ومواقف الأطراف على الأرض، وهو ما يكون مرشدا للسلوك المصرى داخل مجلس الأمن، ما يتطلب تبادل المعلومات على مدار الساعة بين جهاز الخارجية المصرى ومقره القاهرة، وبين مكتب مصر فى الأممالمتحدة ومجلس الأمن، وبين البعثات الدبلوماسية المصرية العاملة على الأرض فى مواطن الأزمات. 3 الحد من خسائر الصراعات المفتوحة: كثير من الصراعات المفتوحة كان بالإمكان تفادى أغلب مآسيها الإنسانية والبشرية، لولا التعامل بواقعية وأنانية مفرطة من جانب بعض الدول الكبرى. وهنا ينبغى العمل على تطوير أجهزة الرصد والرقابة والمتابعة على الأرض، وتطوير قدرات المنظمة الدولية فى التعامل مع أزمات اللاجئين والمصابين والهجرة غير الشرعية والمرأة والطفل، ومحاسبة الدول والحكومات والجماعات عن سلوكياتها فى القتل الشامل أو العنيف وغير المبرر. 4 إعادة التأكيد على مبدأ عدم التدخل فى الشؤون الداخلية: قد يبدو التأكيد على هذا المبدأ ضد الأهداف السابقة التى تستلزم تنشيط دور الأممالمتحدة ومجلس الأمن، إلا أنه يتسق معها تماما، ومن ثم ينبغى على مصر أن تؤكد أن مقاسا واحدا لا يناسب الجميع، وأنه فى بعض الأزمات يؤدى التدخل الخارجى إلى كوارث أعظم، وأنه من واقع النتائج على الأرض فى دول مثل سوريا وليبيا وحالات مشابهة أدى التدخل إلى تحول الأزمات العارضة إلى مزمنة وخلف كوارث إنسانية كان يمكن تلافيها بعدم التدخل. مناهج جديدة وعلى النهج نفسه يمكن تطوير مناهج جديدة للتعامل مع قضايا الاستقرار الوطنى والإرهاب، والعدالة الدولية، والمناطق الخالية من السلاح النووي، وقضايا التنمية، وإسرائيل وفلسطين... وغيرها من القضايا العالمية الجديدة.