اختارت مصر رئيسها، كما ينبغي لدولة حرة، يقرر فيها الشعب، والشعب وحده، من يحكمه. لم تكن معركة الرئاسة المصرية سلسة، ولم تنجز في ظروف عادية. لم تزل البلاد في حالة ثورة منذ عام ونصف العام، ولم يزل الصراع محتدماً على روحها. أن تنتقل رئاسة الجمهورية المصرية من حكم ضباط الجيش وطبقة صغيرة من السياسيين المحترفين، ورجال الأعمال المرتبطين بمصالح أجنبية والسوق الرأسمالية العالمية، إلى أستاذ جامعي وقيادي في حركة الإخوان المسلمين، ليس شأناً روتينياً. في ظل أية شروط أخرى، لم يكن لمحمد مرسي، ولا حتى في أحلام اليقظة، أن يطمح لاحتلال موقع الرئاسة. ولكن الشعب المصري أنجز واحدة من أبرز ثورات زماننا؛ وبعد شهور طويلة من إطاحة رئيس الجمهورية السابق والشريحة العليا من نظام الحكم، لم يزل الشعب يقظاً، يحمل طاقة هائلة للخروج إلى الشارع بمئات الألوف كلما تطلب الصراع على مستقبل مصر تجلياً جديداً للإرادة الشعبية. الشعب لم يعط صوته لمرسي بأغلبية مطمئنة وحسب، بل وكان القوة الفاعلة خلف تأمين انتصاره في الأيام التالية ليومي الاقتراع. وهذه أكبر دول المجال العربي، ومركز ثقل رئيسي في الخارطة الجيو- سياسية والثقافية للمشرق كله. ما يحدث في مصر لابد أن ينعكس على مجمل المجال العربي وعلى توازنات القوى في المشرق. ولذا، فإن الصراع على روح مصر هو في أحد أهم أبعاده صراع على روح العرب والمشرق. القتلة الفاشيست في دمشق، معسكر الثورة المضادة في تونس، وبقايا حاشية الرئيس المخلوع في صنعاء، وأغلبية الأنظمة العربية الحاكمة الأخرى، كما نزلاء سجن طرة في جنوبالقاهرة، راهنوا جميعاً على انتصار الفريق أحمد شفيق، رجل النظام السابق. وصول شفيق لمقعد الرئاسة كان سيوقع انتكاسة فادحة بالثورة المصرية وبحركة الثورة العربية ككل. قوى الثورة العربية، وقوى الوضع الراهن، والوضع الراهن السابق، كانت تدرك جميعها أن المعركة لا تتعلق بمن سيحتل مقعد رئاسة الجمهورية المصرية وحسب، بل وبمصير حركة الثورة والتغيير في المجال العربي ككل. وليس ثمة شك في أن أمام الرئيس الجديد عدداً من الملفات المصرية الملحة وبالغة الأهمية، من جهة تأثيرها على موقعه ودوره، أو من جهة تأثيرها على هدف تحرير البلاد من عنق زجاجة الحكم العسكري. كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي قبض على مقاليد الحكم منذ لحظة إطاحة الرئيس السابق، قد اتخذ جملة من الإجراءات خلال الأسبوعين السابقين على الجولة النهائية لانتخابات الرئاسة، لم تستهدف الاحتياط لفوز مرسي وحسب، بل وتأمين الموقع الدستوري للمؤسسة العسكرية، دورها في تحديد التوجهات الاستراتيجية للبلاد، وامتيازاتها الاقتصادية الفائقة. أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة قراراً بحل مجلس الشعب، المنتخب من 28 مليوناً من المصريين، أول مجلس شعب بعد الثورة، وفاجأ المصريين بإعلان دستوري جديد، يحكم السيطرة العسكرية على شؤون الدولة والبلاد خلال ما تبقى من المرحلة الانتقالية، وأصدر قراراً آخر بتشكيل أول مجلس للدفاع الوطني، بعضوية يغلب عليها العسكريون. القبول بمجمل هذه الخطوات، يعني أن يتحكم العسكريون وقطاع صغير من العناصر المرتبطة بهم في كتابة الدستور المصري الجديد؛ وأن يتحول المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى جهة تشريعية بديلة عن مجلس الشعب، يستحيل على رئيس الجمهورية أو رئيس وزرائه اتخاذ أي قرار بدون موافقته، إلى أن ينتخب مجلس شعب جديد بعد كتابة الدستور والاستفتاء عليه؛ وأن تصبح المؤسسة العسكرية، غير المنتخبة وغير المسؤولة أمام ممثلي الشعب، شريكاً دائماً في القرارات الكبرى للدولة. يضع القادة العسكريون مصر في مأزق تاريخي بكل ما يحمله هذا من معنى. ففي حين يعمل المجلس الأعلى للقوات المسلحة على توكيد الدور السياسي للمؤسسة العسكرية، فإن مصر تحتاج قواتها المسلحة كما لا تحتاجها دولة في كل المجال المشرقي، ليس فقط لطبيعة خارطة القوة في جوار مصر، ولكن أيضاً لأن الدول الكبيرة تحتاج جيوشاً قوية وكبيرة. وخلال الأسابيع، وربما الأشهر المقبلة، سيكون على الرئيس الجديد قيادة الشعب وقوى الثورة، في صراع بالغ التعقيد، من أجل تحرير الدولة المصرية من السيطرة العسكرية، بدون أن يؤدي هذا الصراع إلى إضعاف القوات المسلحة. بيد أن الأولويات الداخلية للرئاسة المصرية الجديدة، لا تعني أن يغض الرئيس المصري المنتخب النظر عن أولويات مصر الخارجية، والعربية منها على وجه الخصوص. واحدة من أبرز المؤشرات على انحطاط الأوضاع المصرية الداخلية، كان التراجع الكبير في دور مصر الإقليمي وتراجع قدرتها التقليدية على التأثير في محيطها العربي، التأثير السياسي أو الثقافي. انحطاط مصر كان شاملاً، وصعودها ونهضتها سيكون بالضرورة شاملاً. مقدرات مصر الاقتصادية، لا يمكن أن تستغل كما ينبغي، ولا يمكن أن تطور كما ينبغي، بدون تعزيز روابط مصر بمحيطها، وتعظيم المردود الاقتصادي لوزن مصر السياسي والثقافي. يعمل المصريون في عدد ملموس من الدول العربية، سيما النفطية منها؛ بل إن مصر، على نحو ما، شريك ثانوي في الاقتصاد الريعي لدول النفط العربية. وتمثل الاستثمارات العربية، حتى قبل اندلاع الثورة، الجزء الأكبر من الاستثمارات الخارجية في مصر. وفي حال شهدت مصر نهضة صناعية جديدة، وهي بلا شك مؤهلة لمثل هذه النهضة، فإن الجوار العربي سيشكل السوق الطبيعية للصناعة المصرية. وإن كان النهوض الاقتصادي والعدل الاجتماعي من أهم أهداف الثورة المصرية، فعلى مصر الجديدة أن تعيد النظر كلية في استراتيجيتها الاقتصادية، وأن تحرر إرادتها ومصير شعبها من الارتهان للمعونات الخارجية، التي لم تصب دائماً لمصلحة القطاع الأكبر من الشعب. وليس الضرورات الاقتصادية وحسب ما يفرض على مصر تحركاً سريعاً لاستعادة الدور والموقع. فالدول الكبيرة لا يمكن أن تنهض بدون وعي جمعي، بدون رؤية جمعية للذات، تعكس حجمها ودورها وتاريخها. وقد ظلت مصر طوال تاريخها تحمل مسؤوليات كبيرة تجاه محيطها العربي، تلعب دوراً رئيسياً في ضبط وشائج التضامن العربي، وتساهم مساهمة حيوية في رسم التوجهات العربية، وتقف في المقدمة لمواجهة المخاطر التي تهدد المحيط العربي، في فلسطين وفي غير فلسطين. وليس ثمة شك أن غياب مصر الطويل عن دورها العربي ترك أثاراً ثقيلة الوطأة على مجمل أوضاع العرب وعلاقاتهم البينية. ولأسباب عديدة، تتعلق بفقدان المؤهلات الضرورية في أغلب الاحيان، لم تنجح المحاولات المتكررة لدول عربية أخرى في ملء الفراغ القيادي الذي تركه الغياب المصري. ما ملأ الفراغ في النهاية، كان التدخلات الإقليمية والأجنبية المتزايدة في الشأن العربي. طوال عقود، تركت البوابة العربية بلا حراسة كافية، مما أفسح المجال العربي للتدخلات، والفوضى، وسياسات المحاور، وانقلاب المصالح الطائفية والفئوية على الدولة الوطنية. العودة بمصر إلى دورها العربي، بكلمة أخرى، ضرورة مصرية وضرورة عربية، ولابد أن توضع في قمة أولويات الرئيس المصري الجديد. وليس هناك من مسألة تعكس أزمة الوضع العربي، واستباحة المصالح العربية، مثل سورية، حيث بات مستقبل هذا البلد بالغ الأهمية ومستقبل شعبه نهباً للقوى الإقليمية والدولية، وحيث يسفك الدم العربي السوري بلا حساب، وفي انتظار تفاهم روسي - أمريكي في أحسن الأحوال. في سورية، يستطيع الرئيس محمد مرسي أن يرسل لكل من يهمه الأمر رسالة واضحة حول مصالح مصر، وطبيعة علاقاتها بمحيطها العربي. بين مصر وسورية روابط تاريخية واستراتيجية بالغة الخصوصية؛ ولأن الأزمة السورية تنبع من التحاق سورية وشعبها بقافلة الثورة العربية، فلابد أن مصر الثورة ورئيسها أقدر على تفهم الشأن السوري وتوتراته. وهذا ما يجب أن يجعل الأزمة السورية خطوة البداية نحو استعادة مصر لدورها وموقعها العربيين. الحقيقة التي لا يجب أن يغفل عنها الرئيس محمد مرسي أن الموقف المصري من سورية طوال العام ونصف العام الماضيين لم يرتق إلى طموحات مصر الثورة ولا طموحات المصريين. لم تتصرف الدبلوماسية المصرية، ومعها رئيسها الفعلي، المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بروح الشلل واللامبالاة التي اتصفت بها سياسات نظام مبارك العربية وحسب، بل أن الدور المصري كاد أن يتلاشى كلية. ليس ثمة مبادرة إيجابية واحدة طرحتها الدولة العربية الكبرى لحماية الشعب السوري من آلة القتل الوحشية التي تعصف به يوماً وراء اليوم، وعلى مدى ستة عشر شهراً على التوالي. وحتى القرارات التي اتخذتها الجامعة العربية لمعاقبة النظام السوري على جرائمه، لم تنفذها قاهرة المجلس العسكري كما ينبغي، بالرغم من أصوات المصريين العالية في ميدان التحرير المؤيدة لأشقائهم في سورية والمتعاطفة مع آلامهم. ليس مطلوباً من مصر الجديدة أن تنزل قواتها على ساحل اللاذقية أو في أرياف حلب، مع أن هذا ليس غريبا إن حدث. ولكن ثقل مصر الدبلوماسي، عربياً ودولياً، يمكن أن يصنع فرقاً ملموساً بين الوضع السوري الراهن، وبين تحرير سورية من حكم القتلة. يمكن لمصر أن تسمع الدول والقوى، التي تقف خلف النظام السوري وتمد له يد العون في مواجهة الشعب، ما الذي يعنيه استمرار دعم أنظمة القهر والاستبداد والقتل من عواقب على علاقاتها مع مصر ومع الشعوب العربية ككل. كما تصرف المجلس الأعلى للقوات المسلحة تجاه الشأن الداخلي، في مناسبات عدة، وكأن ثورة لم تحدث، أشرف على سياسة خارجية وكأن مصر لم تتغير. ولذا، وبالرغم من حجم الأزمة السياسية الداخلية، ومن تعقيد الملفات التي تواجه الرئيس الجديد، فإن سورية توفر حدثاً بالغ الإلحاح والأهمية، تلتقي عنده خطوط السياسة الداخلية والخارجية معاً، ويمكن أن يكون مناسبة لأن يذكر الرئيس المعنيين جميعاً بأن مصر الجديدة، مصر الثورة، مصر مختلفة بالتأكيد، وأنها على استعداد لتحمل مسؤولياتها كما يجب على الكبار أن يتحملوا مسؤولياتهم. مصر الجديدة لابد أن تستشعر مسؤوليتها تجاه حياة السوريين وكرامتهم، كما تستشعر مسؤوليتها تجاه حياة المصريين وكرامتهم. هكذا تعود مصر لتقود.