كلمة فوبيا لمن لا يعرفها تعني الخوف المرضي وغير المبرر من شيء ما, وعندما نقرنها هنا بهذا المرض الذي ترتعد منه الفرائص فكأننا نقول إن إنفلونزا الخنازير لا مبرر للخوف منه! وهذا لعمري مالا أقصده, ولا أرمي اليه, فالثابت علميا وميدانيا أنه مرض سهل الانتشار, وقد أصاب الآلاف في العالم وليس في مصر وحدها لكن مايؤلمني بحق هو أن طريقة تعاملنا مع المرض لا تخلو من عشوائية, وعدم ادراك حقيقي بحجم المشكلة, وأسبابها, ودوافع من يشعلون في المجتمع المصري الحرائق( من كل لون وصنف) بدعوي مواجهة مخاطر إنفلونزا الخنازير.. وقبل أن أرصد تداعيات هذا المرض علي المنظومة التعليمية في مصر, أود أن أرفع القبعة لحكومة الدكتور أحمد نظيف التي قررت قبل أيام وبشكل قاطع التطعيم الاجباري لتلاميذ المراحل الابتدائية والاعدادية والثانوية.. وهي بذلك تكون قطعت الطريق علي مشعلي الحرائق الذين استغلوا المرض لتوسيع رقعة الخوف الذي أصبح شكلا من أشكال الفوبيا كما اسلفت, لأنه مع التطعيم ستعود الحياة الي سابق عهدها: ندية, رطبة في مدارس مصر التي يتردد عليها نحو17 مليون تلميذ الي جانب مليون آخر من المدرسين والقائمين علي العملية التعليمية.. والحق إن السؤال الذي يؤرق الكثيرين هو التالي: إذا كان مرض إنفلونزا الخنازير ليس حكرا علي مصر, وانما ظهرت أعراضه ولاتزال في بلدان الشمال والجنوب علي السواء, فلماذا تحول التعامل معه الي هذه الدرجة من( الرهاب) بحيث أصبحت جميع الأسر المصرية تعيش في حالة هلع. وحول حياتهم الي مايشبه الجحيم خوفا علي فلذات الأكباد! وفي اعتقادي ان هذه الحالة من العشوائية في التعاطي مع مرض إنفلونزا الخنازير تدين أصحابها أكثر من كونها تبرر سلوكياتهم, ويرجع ذلك الي سببين كبيرين: السبب الأول ان استقراء ردود الفعل( غير الموضوعية) من أولياء الأمور في أنحاء المحروسة, يكشف عن أن أحدا لم يقف لحظة صدق مع نفسه ليتساءل: ماهي النتيجة المرجوة بعد كل هذا الشحن, والتجييش والتخويف.. ألا يضر ذلك بالنظام التعليمي المؤسسي.. بكلمة أخري: إن الدعوة التي يتبناها البعض, ومن بينهم أولياء أمور باتجاه اغلاق المدارس بدعوي انها تحولت الي أماكن موبوءة تتفشي فيها الأوبئة هي دعوة مغلوطة ولا تخلو من ظلم وانتهازية.. ولقد حدثني أحد رجالات التربية والتعليم عن سوءات هذه الدعوة, مؤكدا ان رواتب عدد كبير من المدرسين قد دفع بهم مقدما لعشرات السنين باعتبار انهم طوق النجاة الذي سوف ينتشل ابناءنا من طوفان مرض إنفلونزا الخنازير! وهذا الحديث يسوقني الي الحديث عن السبب الكبير الآخر الذي أفرز لنا هذه الأزمة وهو الدروس الخصوصية.. تلك الآفة التي يعاني منها مجتمعنا المصري, وصدرها الي المجتمعات العربية, والثابت أن هناك مافيا الدروس الخصوصية بمعني انها تعمل وفق منطق المافيا فعلا لا قولا فترويج الشائعات هو البداية, ثم تحقيق إجماع حولها, وطرح حلول تبدو للانقاذ مع انها حلول انتهازية تبغي الثراء وابتزاز أوجاع المجتمع لتحقيق ثروات.. ولذلك عندما تقول بعض الأرقام ان مصر وحدها تنفق المليارات علي الدروس الخصوصية فهو أمر محزن, ويدق ناقوس الخطر في الوقت ذاته. والعجيب أن مراكز الدروس الخصوصية يصل عدد الطلاب فيها الي المئات, والمؤلم أكثر ان أولياء الأمور لا يرون في هذا الزحام خطرا علي أولادهم وافتراس إنفلونزا الخنازير لهم.. بينما يتنادون الي اغلاق المدارس التي لا يزيد عدد التلاميذ في فصولها علي20 أو30 تلميذا! المحزن في الأمر أن هذا الأسلوب غير العلمي الذي نتعامل به مع هذا المرض يكاد يكون أسلوب حياة! ففي أزمات كثيرة مرت بنا سواء مايتعلق منها بالشباب أو المرأة أو الأحزاب, أو الانتخابات, يغيب العقل تماما, ثم تسليم أنفسنا( طواعية) ليخطفنا الاعلام تارة, والفضائيات تارة أخري, والروتين تارة ثالثة ثم الجهل, والمحسوبية, والانتهازية تارة رابعة وخامسة وسادسة.. وهكذا نجد مجتمعنا( ضحية) بأيدينا لأمراض اجتماعية لا ترحم. وفي كل الأحوال إن حصاد هذا( اللا معقول) في تصرفاتنا الفردية والمجتمعية قد أصبح فجا, ويكاد يملأ الأرجاء من حولنا, والأعجب من ذلك ان الأوجاع قد طالت المجتمع العربي من كل جانب دون أن ننتبه الي الحكمة التي تقول: إذا فعلنا الشيء نفسه( ولم نغيره) فلا يتعين علينا أن ننتظر نتيجة أخري غير تلك التي اعتدنا عليها. وفي ظني أن أوجاعنا ليست بدعا, ففي جميع المجتمعات يمكن أن نجد أوجاعا شبيهة ومغايرة, وبكميات كبيرة والاختلاف الوحيد هو في طريقة التعامل مع هذه الأوجاع.. ولا مبرر ان نعتقد بأن مجتمعنا المصري قد كتب عليه ان يعيش في دوامات لا تنتهي, وأن الخلاص منها ميئوس منه, وأن أوبئة العالم قد تحالفت علينا..! هذه مشاعر محبطة قد تنتاب الكثيرين, ففي كل مرة يلتقي اثنان يطل هذا( الحديث الاكتئابي) برأسه بينهما, ويظل كلاهما يمطر الآخر بأحاديث مثبطة للهمم, وقاطعة لكل أمل, وكأن المصري قد خلق ليكون( عبرة) للآخرين في التدني, وسوء الطوية, وقلة الحيلة, وضعف العزم. .. إنني أقطع بأنها أحاديث فارغة من المعني, وهي هادمة بقدر عبثيتها.. لأنها تخطف المواطن لحساب أفكار تواكلية, تستعذب الألم, وتستقطر الدموع بلا هدف سوي تكريس الاحباط في النفوس, وملء الصدور بهواء فاسد يكتم الانفاس ولا يغذيها.. والمثال الصارخ علي ذلك هو موقفنا من مرض إنفلونزا الخنازير الذي حولناه الي( فزاعة) يخاف منها المجتمع بأسره, وأصبحت معالجاتنا العشوائية له تثير الضحك والتندر, إذ غاب عن أذهاننا أننا بهذا الخوف غير المبرر إنما نقضي علي نظام تعليمي عنيد فها هي جامعة القاهرة تشهد علي عملية تعليمية ممنهجة منذ أكثر من قرن.. كما تجعلنا برضائنا نبيع أحلامنا للانتهازيين الراغبين في تدمير كل مايبعث الأمل في قلوبنا.. ويفرش الطريق بالورود أمام أجيالنا, باتجاه مستقبل نبنيه بقوة وعزم وليس بفوبيا ورهاب لا معني له.