الثقافة تشكل وجدان الأمة. وهى مرتبطة بالأمن القومى ولا تتجزأ عن الحياة السياسية والاجتماعية. والثقافة ليست بنيانا فوقيا ولكنها الأساس لأى بناء قومى. وبعد انقضاء المرحلة الصعبة التى عاشها الأدباء والمثقفون والمبدعون والتى عادت بهم إلى الوراء أو جعلتهم فى حيز الجمود، يتحتم علينا الآن أن نقوم بإرساء منظومة ثقافية تتفاعل وتواكب أحداث الحراك السياسى والمجتمعى. فهناك مهمات جديدة للثقافة بعد الثورة. فماذا نريد من الثقافة لنبنى وطنا متميزاً له شخصيته الفكرية والحضارية..! يرى الشاعر والمترجم رفعت سلام أن الثقافة ليست رفاهية، على نحو مايتصور بعض المسئولين، بل هى أداة فاعلة لبناء الانسان المصرى. ولأن نظام مبارك لم يقتنع بذلك، اكتفى بمحاربة الإرهاب فى الثمانينيات والتسعينيات بالأداة الأمنية فحسب، فقضى على التنظيمات الظاهرة على السطح، أما جذور الارهاب الثقافية، فظلت كامنة بلا مساس، ولهذا فما يحدث الآن من موجة إرهابية جديدة كان متوقعاً ومنطقياً للأسف. ومنهج مواجهة الإرهاب حاليا هو نفس منهج نظام مبارك، وسيؤدى فى أفضل الأحوال إلى نفس النتيجة : اختفاء مؤقت للأعمال الإرهابية، مع بقاء الجذور فى انتظار لحظة مواتية تالية. لابد أن تعيد الدولة النظرفى موقفها من الثقافة بمعناها الشامل، إن أرادت إعادة تأهيل الانسان المصرى، لتصبح الثقافة أداة فى بناء مستقبل مصر. فالثقافة ليست مهمة وزارة الثقافة وحدها، ولا المثقفين وحدهم، بل لابد من حشد طاقات وزارات الإعلام والتعليم والتعليم العالى والأوقاف والثقافة والأزهر لتغيير الثقافة التقليدية الحالية التى تؤسس للتيارات الظلامية والإرهابية. ذلك يعنى أنه قبل تطبيق أى منظومة ثقافية «والوصول إليها ليس صعباً»، لابد من حرث الأرض أولاً وتمهيدها، ولابد من تهيئة أجهزة الدولة وتخليصها من أشكال الفساد المختلفة، التى أصبحت متأصلة على مدى عقود من الزمن، ومراجعة برامج أجهزة الإعلام والمقررات الدراسية لجميع مراحل التعليم بأشكاله المختلفة، وتعليمات الخطابة المنبرية، لنفى مايتوافق ويؤسس للظلامية الفكرية والثقافية. ولابد للدولة من توفير مناخ حرية الرأى والتعبير فى كل المجالات. بما فيها حرية البحث العلمى، ونفى مناخ التحريم المهيمن الذى لا يستفيد منه سوى «طيور الظلام». أما الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى» فيرى أنه لابد أن تستجيب الثقافة فى هذه المرحلة الجديدة لما أردنا أن نحققه فى الثورتين اللتين قمنا بهما: ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، وثورة الثلاثين من يونيو 2013، والذى حققناه فى هاتين الثورتين. ففى الثورة الأولى أردنا أن نبنى نظاماً ديمقراطياً نستعيد فيه حريتنا، ونحكم أنفسنا بأنفسنا، ونتقدم كما تقدمت الأمم الأخرى. باختصار الثورة الأولى أردنا بها أن نحقق الديمقراطية. وفى الثورة الثانية التى قمنا بها ثرنا على نظام الإخوان والسلفيين، هذا النظام الذى كان انقلاباً فى حقيقة الأمر على ثورة يناير. أقول إننا فى ثورة الثلاثين من يونيو أسقطنا الاخوان واستعدنا الدولة الوطنية والدولة المدنية. فالذى نريده من الثقافة هو أن تساعدنا على بناء الديمقراطية وعلى المحافظة على الدولة الوطنية. نريد من الثقافة أن تكون الدولة ديمقراطية، وأن تحقق لنا العقلانية، وأن تنقذنا من التفكير الخرافى وأن تخرجنا من الماضى، وأن تفتح لنا أبواب المستقبل، لأننا حتى هذه اللحظة نعيش تحت تأثير ثقافة الماضى. نحن قمنا بثورة من أجل الديمقراطية ولكن ثقافتنا معادية للديمقراطية، نحن قمنا بثورة من أجل الدولة المدنية، لكن ثقافتنا مازالت تخلط بين الدين والسياسة، وهى ثقافة معادية للعقل والمرأة والعلم ولحقوق الإنسان. ثقافتنا لاتزال ثقافة تلقين وليست ثقافة تفكير حر. لهذا..كل شىء متوقع حتى نخرج من ثقافة الماضى وندخل فى ثقافة العصور الحديثة. والسؤال هو هل باستطاعتنا أن نحقق الازدهار الاقتصادى دون ازدهار ثقافى؟ وهل نستطيع أن نتمكن من التكنولوجيا الحديثة دون أن نتمكن من الثقافة الحديثة؟ إذا لم نكن قادرين على أن نفكر تفكيراً حراً بعيداً عن أشكال الرقابة المفروضة علينا بصور مختلفة، إذا لم يكن لنا الحق فى هذا التفكير الحر كيف يمكن أن نتمكن من التكنولوجيا ونتمكن من الازدهار الاقتصادى؟ إذن النهضة الاقتصادية تحتاج إلى نهضة ثقافية، والنهضة الثقافية تحتاج الى الحريات الديمقراطية، التى لا نستطيع أن نفكر ونراجع ثقافتنا بدونها. نحن فى حاجة الى ثقافة علمية وهذه الثقافة العلمية تستفيد من الثقافة بمعناها العام. والثقافة تحتاج الى ميزانيات وخطط. نحن نحتاج لأن ننقل إلى ثقافتنا الحديثة كل ماسبقنا إليه العالم، نحتاج أن نترجم وأن نؤسس معاهد ونستقدم خبراء وأساتذة.ونحتاج إلى أن نرسل بعثات.... إلخ. وهذا لا يتحقق إلا بميزانيات وتنسيق بين عمل المهندس والمثقف، بين سوق العمل وسوق الثقافة. نحن نريد أن نضمن لأنفسنا عقولاً جديدة. والعقول الجديدة لابد ان تغتسل من سلبيات العصور الماضية وأن تبرأ من قيودها هذا ما نطلبه من الثقافة الآن. فالثقافة هى الانتاج والابداع والدفاع عن النفس، وهى التربية والتنمية، وهى التعلم والتذوق والتقدم والرقى. ويرى الدكتور بهاء حسب الله أستاذ الأدب العربى. جامعة حلوان، أن مصر الآن تمر بمرحلة بناء حياة سياسية جديدة تؤسس لمناخ ديمقراطى منتظر ومتوقع، تستخدمه بلا جدال مناخات اجتماعية وواقعية مستجدة، خاصة أن المصريين قد عايشوا بحق مرحلة سياسية ثورية (حداثية) لم يتوقعوها من قبل، بل ولم يحلموا بها حتى قامت فجأة ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، وماتلاها من حركات المد الثورى، ولا خلاف على كون هذا الحراك السياسى وما سيترتب عليه من حراك مجتمعى، لن تكتمل بوادره ولا نتائجه الا بإرساء منظومة ثقافية تتفاعل مع طبيعة المعنى السياسى، وبديهياته المجتمعية، ومنها فكرة رسم مشروع ثقافى مصرى للفترة الراهنة، وما بعدها. خاصة بعد ما تبين لنا أن الأزمة الحقيقية، فى تجربة الحكم السابقة، هى أزمة ثقافية من الطراز الأول. أننا إذا أردنا أن نتقدم الى الأمام فى مسألة المشروع الثقافى علينا أن نخطو الخطوات التى خطاها من نحو نصف قرن مؤسس مدرسة الثقافة المصرية المعاصرة «الاستاذ ثروت عكاشة». أولا خطوة للنشر المعاصر تتبناها وزارة الثقافة وفروعها لأصحاب الرؤى النقدية والفكرية والفلسفية المعاصرة ونأتى للخطوة الثانية فى مشروعنا المستقبلى القوى وهى خطوة تربط فكر الماضى الذاتى المتميز، بأنماط الاتجاهات الفكرية المعاصرة، فتراثنا القديم بجواهره الإبداعية فى حاجة لقراءة جديدة من منظور الفكر والنقد المعاصر ومدارس الحداثة. ويؤكد الآراء السابقة الشاعر والباحث فى التراث الشعبى مسعود شومان، حيث يرى أنه لابد أن يكون تفكيرنا حين نتأمل الثقافة، كاصطلاح وكفعل على الأرض، مراعيا للبعد الاستراتيجى، بمعنى ألا يتم تهميش الثقافة فى خطة الدولة، وأن يقدم لها الدعم الكافى، لأنها تمثل القوة الناعمة لمصر، فمقدراتنا ترتكز فى أعظم صورها على الثقافة وتجلياتها النوعية من إبداع أدبى وفنى، فضلا عن ثقافتنا المادية وثقافتنا الشعبية، ومن هنا لابد من مراعاة الثقافة وأبعادها المتنوعة، بحيث تتحقق مقولة «العدالة المعرفية» بوصول الثقافة الى المناطق المهمشة والمنسية التى من شأنها تنوير وعى الناس، أى لابد أن تكون الثقافة من الناس وإلى الناس، وأن تكون كلية، بمعنى ألا تركز على النخبة أو على مكان بعينه أو على نوع إبداعى أو فنى، ناسية باقى الأنواع والأماكن، كما أود لفت النظر الى ثقافة الحدود المصرية بوصفها مناطق عبور ثقافات ومنها يدخل الإرهاب والتطرف، وبالتالى لابد من قراءة ثقافية لهذه المناطق والوصول للأطراف التى تم تهميشها طويلاً، والاهتمام بثقافة الحدود لنرسمها بالفن والثقافة تدعيما لحدودنا الجغرافية والسياسية، كما أن مجموعة وزارات القوة الناعمة المتمثلة فى الثقافة الاوقاف التربية والتعليم التعليم العالى الشباب والرياضة لابد أن تتكاتف من خلال استراتيجية تعتمد على قواعد البيانات والوصول للناس فى الاماكن المحرومة، لإعادة سلم القيم الذى كاد ينهار، وعلينا أن نستعيده قبل أن نصل الى مرحلة اللا عودة.